ديننا وثقافتنا رسخت الرحمة بالضعفاء والعجائز

 

ديننا وثقافتنا رسخت الرحمة بالضعفاء والعجائز

بقلم:سري سمّور

 

في مادة سابقة   تحدثت عن صورة نمطية للعجوز في الثقافة الغربية عموما، تجعل منها في الوعي الباطن، رمزا للأذى والسحر والجريمة والخبث، وهذا تلقائيا يؤسس قاعدة صلبة للعقوق، وتبعاته الملحوظة على كبار السن في البلاد الغربية.

ولكن الحالة عندنا ليست مثالية في هذا الشأن، كما أن أوضاع العجائز في حالات ليست قليلة عندنا بائسة ولا فضل لنا على الغرب، بل قد يكون الغرب بما يوفره لهؤلاء من ظروف معيشية، رتبها لهم قانونيا، عبر اقتطاع الضرائب من مدخولاتهم في أيام قدرتهم على العمل والإنتاج، ربما أفضل من حال هذه الفئة عندنا، هكذا يحاجج بعضهم.

وبعيدا عن الانفعال وإطلاق الأحكام السريعة، سأسلط الضوء على جوانب ومحاور تتعلق بهذه المسألة في السطور التالية.

دين وثقافة تؤكد على الرحمة بهم  

 الأهمية والعدل أن نشير إلى أن ديننا وثقافتنا، أعطت الإحسان والرحمة والعطف بالوالدين خاصة، وبعموم من هم أسن عامة، أوامر لا تقبل التأويل.

ففي سورة الإسراء:-

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً }

هذا الأمر القرآني الواضح جعل الإحسان للوالدين(أو أحدهما) معطوفا على عبادة الله وحده لا شريك له، أي مقرونا بصلب العقيدة وأصلها(التوحيد).

وفي الأحاديث النبوية الصحيحة كثير من الحض على برّ الوالدين، والتحذير من العقوق، والتذكير بسوء عاقبة العاق عند الله تعالى.

وأيضا اقترن العقوق بالشرك؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قالسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور.

وقد روي الحديث من طرق أخرى وفي كتب أخرى غير البخاري، والعبرة أن العقوق ذنب عظيم مقترن بقبحه وبشاعته بالشرك والعياذ بالله.

فالأساس متين وصلب من هذه الناحية، ولا يقارن بما عليه الحال في الثقافة الغربية المتداولة منذ قرون.

العاق منبوذ

وقد كان وما زال برّ الوالدين صفة حميدة، وميزة وخصلة محمودة يشار إليها وتذكر عند الحديث عن إنسان ما.

والعكس صحيح؛ فالإنسان العاق كان وما زال مرذولا، وتتناقل أخباره الأجيال، إلا إذا تاب من ذنب وخطيئة العقوق، ونال مسامحة الأم أو الأب، ولذا وصلتنا قصة (علقمة) مع أن هناك من يراها لا تثبت ومن الموضوعات، ولكن تداولها وانتشارها دليل على أهمية البرّ ونبذ العقوق.

ووصلتنا قصة العاق (منازل) الذي دعا عليه أبوه وهو في بيت الله الحرام فأصيب بشلل نصفي بعدما لطم أباه!

وأية قصة وخبر من أخبار العقوق ينظر إليه من عموم الناس في مجتمعنا، باستقذار، وتصنّف ضمن أحطّ الخصال التي يوصف بها المرء في ثقافتنا الاجتماعية، وقبلها بالطبع إسلامنا، كتابا وسنة وأخبار صحابة وتابعين وغيره.

طلب البركة  

بل إن الناس عموما يطلبون بركة العجوز والمسنّ، حتى بعد موته، ويرون أن حضوره ووجوده علامة للتوفيق والوقاية والحماية والحفظ من كيد الشيطان، وآية لتيسير الرزق وغير ذلك.

لا أقول أننا في حالة مثالية في هذا الشأن، ولكن لدينا تعاليم وأوامر قرآنية ونبوية صارمة وواضحة، وثقافة شعبية تؤطر وتهيئ كبير السن كي يأخذ حظا وافرا من الاحترام، ويحظى برعاية، مع وجود الأبناء والأحفاد حوله.

حتى لو اضطرتهم ظروف الحياة للعيش بعيدا عنه، ولكنه يظل في وعيهم ومنظورهم الصدر الحنون، ويسعون إلى نيل رضاه وبركته.

بل لعلك تجد هذا البرّ أحيانا عند أناس لديهم تقصير في أداء شعائر الإسلام وأركانه، ولكنهم فيما يتعلق بهذه المسألة يبذلون جهدهم بكل تفان وإخلاص.

 

غزو الثقافة الغربية

مع غزو الثقافة الغالبة عالميا؛ وهي هنا ثقافة غربية(أمريكية وأوروبية) لمجتمعاتنا، وتغلغلها في نظام حياتنا، رأينا حالات عقوق تقشعر لها الأبدان، وحالة سكوت مجتمعي نسبيا عنها.

فالعقوق كان موجودا، كحالة محدودة مرذولة منبوذة منكرة وشاذة عبر كل القرون الماضية، وكان هناك حروب ضد تلك الحالات ولو كانت حربا صامتة، ولكن الغزو الثقافي الغربي، قلل إلى حدّ ملحوظ من النظرة إليه كجريمة كبرى، خاصة من الناحية العملية.

وحالات العقوق تزداد مع مرور الوقت، بالتزامن مع صمت عام، ولو كان الناس ينكرونها ويحذرون من ازديادها، ولكنهم لا يقاطعون العاق ولا يضعون له حدّا، ولو من ناحية المقاطعة والنبذ الاجتماعي وهو سلاح متاح، ما دام استخدام أدوات أخرى قد يعرضهم إلى مساءلة وضرر.

ومع ذلك فإننا، وبحمد الله وفضله، لم نصل، وبعون الله لن نصل، إلى ما آلت إليه أحوال كبار السن في بلاد الغرب، ولكن يجب علينا التنبيه وقرع جرس الإنذار.

بيوت العجزة ضرورية لحالات معينة

دوما تجد من يشنّ حربا كلامية، بل حتى تأخذ طابعا فنيّا أحيانا، تجاه بيوت العجزة، بإيحاء أو تلميح أو تصريح أنها يجب ألا تكون موجودة في بلاد العرب والمسلمين، والحقيقة، أن تلك البيوت ضرورية لبعض الحالات.

وأقول حتى أن بعض الأولاد ظروف عملهم، في زمن صار تحصيل الرزق وطلبه صعبا، اضطروا  للابتعاد عن مكان سكنى الأب والأم، ويريدون رعايتهم، والاطمئنان عليهم دون منّ من قريب أو بعيد، فيجدون الحلّ في تلك الأماكن.

بل ثمة عواجيز ميسوري الحال اختاروا الذهاب إليها كي ينسجموا مع أقرانهم بعدما اضطرت الظروف أولادهم للعيش بعيدا عنهم، ليس عقوقا، ولكن اضطرارا.

الاعتراض على بيوت العجزة، هو مخافة أن تتحول إلى أساس وقاعدة لا استثناء منضبطا، ومكانا تلقائيا ينتظر كل عجوز أو مسنّ.

  الحذر والانتباه

أدوات ووسائل تأثير الثقافة الغربية على مجتمعنا كثيرة ومتنوعة، ومنها ما هو ظاهر جليّ، ومنها ما هو متستر خفيّ، وقلت في مقال سابق هنا قبل سنوات أن ثمة تهديد لآخر قلاعنا الحصينة وهي الأسرة.

فالتمسك بالأسرة والحفاظ عليها وتطوير العلاقات داخلها، وزيادة تحصينها أمور في غاية الضرورة، ومصير العجائز عندنا وأوضاعهم، مرتبطة بمدى اختراق حصون قلعة الأسرة.

وفي النهاية نقول:بحمد الله وتوفيقه، وضع العجائز عندنا عموما أفضل بوضوح من نظيره في بلاد الغرب، أقله نفسيا ومعنويا واجتماعيا، ولكن يجب ألا نركن إلى ذلك، فثمة تراجع متزايد في هذا الأمر، يحتاج التنبيه والتذكير والتحذير...ولعل سطوري من ضمن قرع جرس الإنذار.

،،،،،

من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين

تم النشر ، 13-2-2023م

https://www.aljazeera.net/blogs/2023/2/13/%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%86%D8%A7-%D9%88%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A7-%D8%B1%D8%B3%D8%AE%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%B9%D9%81%D8%A7%D8%A1

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة القُطرية الحديثة تمنع إنقاذ الأقصى!

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...