مخيم صاغ هوية المدينة الصغيرة

 

هذا المقال هو الثالث والأخير في الحديث عن الأسباب الحقيقية التي جعلت مخيم جنين بؤرة للمقاومة، وحالة خاصة لا مثيل لها، وقد تحدثت في المقالين السابقين عن تجذر المقاومة في جنين سواء المقاومة النظامية، أو المقاومة التي يخوضها رجال يتبعون أسلوب حرب العصابات، وفي هذا المقال سأتحدث عن مزايا أخرى لمخيم جنين.

"جنيني يا بطيخ"

إذا كان لكل مدينة تقريبًا شيء يميزها؛ مثل وجود شخصية بارزة في مجال ما، أو حدث تاريخي، أو معلم ديني أو سياحي، أو واقع اقتصادي، أو منتج خاص؛ فإن جنين ليست بعيدة عن ذلك، ليس بكونها أيقونة مقاومة للغزاة فقط، بل بمنتوجاتها الزراعية المميزة، وكيف لا وهي في حضن مرج ابن عامر، أحد أكبر سلال غذاء بلاد الشام عمومًا، وفلسطين على وجه الخصوص.

ومن أكثر ما تميزت به جنين هو البطيخ الذي ينضج ويقطف صيفًا ويباع في الأسواق، ويصدّر منه خارج فلسطين، ويروي كبار السن أن أسواق دمشق وبيروت لطالما صدح فيها البائعون، "جنيني يا بطيخ"، مثلما اشتهرت الخليل -ولا تزال- بالعنب، وأريحا بالموز وغير ذلك.

لكن الحال تغير قبل أكثر من أربعين عامًا حين عمد الاحتلال إلى محاربة المزارعين الفلسطينيين في جنين في أرزاقهم، خاصة حربه على (البطيخ الجنيني) فعمد إلى عرقلة التصدير؛ فالمعابر تحت سيطرته التامة، وأغرق الأسواق المحلية ببطيخ سعره رخيص لضرب المنتج الفلسطيني (الجنيني)، ومع الأسف كان له ما أراد، وزحف العمران على أراضي جنين الزراعية، بتشجيع ومخطط صهيوني محكم، وظهور مرض يصيب ثمرة البطيخ، مما عطل زراعتها في جنين سنوات طويلة.

 

ومع أن زراعة البطيخ استؤنفت في جنين منذ سنوات، ولكن (أمجاد) البطيخ الجنيني لم تعُد، والكميات محدودة، وحتى الطعم اللذيذ الذي نتذكره ما عدنا نتذوقه في البطيخ، مع بقاء منتج جنين من البطيخ هو الألذ طبعًا.

أسوق هذا الشرح عن بطيخ جنين لتبيان، أن قدرها فقط –حتى زوال الاحتلال- أن تظل عاصمة المقاومة وقبلة المقتدين بنهج الشهادة والتضحية، خاصة أن جيلًا اكتهل الآن لم يعش مرحلة (التميز البطيخي).

 

هوية جنين صاغها المخيم

لا توجد أي مدينة في الضفة الغربية إلا وعلى مقربة من مخيم من مخيمات اللاجئين، الذين بدأ تاريخهم من لحظة تشريد العصابات الصهيونية للتجمعات السكانية الفلسطينية في 1948، طبعا هناك من اللاجئين من قطن بعض المدن بعد فترة إقامة في المخيمات، (هذا مستمر ولا يتوقف)، أو أقاموا في المدن منذ بداية النكبة استملاكًا لبيوت أو استئجارًا بسبب ظروف معينة، ولكنهم حملوا بطاقات وصفة لاجيء المقدمة للاجئين من الأونروا.

ميزة لاجئي جنين -سواء في المخيم أو المدنية ومحيطها- أنهم صاغوا وشكّلوا هُوية المدينة الصغيرة (جنين)، وصبغوها بصبغة خاصة، وأثروا فيها أكثر بكثير مما أثرت فيهم.

وجنين مدينة كنعانية قديمة، وظلت على مر عمرها قليلة السكان، ذات طابع زراعي عمومًا، وتحمل من صفات القرية والمدينة.

 

مع نابلس

وعلى العكس من هوية جنين ترتسم شخصية نابلس؛ فهي جغرافيا مدينة تقع غربها مخيم (عين بيت الماء أو العين)، ويحدها من شرقها مخيمان هما: بلاطة وعسكر، وبلاطة أكبر مخيمات الضفة الغربية، إضافة إلى لاجئين سكنوا داخل أحياء البلدة القديمة، التي هي عصب نابلس وجذرها وأساسها الاجتماعي والتجاري؛ بل إن نابلس كانت ولا تزال مقر إدارة مركزية للأونروا في شمال الضفة الغربية.

ولكن نابلس مدينة عريقة هُويتها متبلورة وعاداتها وأعرافها وقدم العائلات التي تقيم فيها منذ قرون، وعمل أهلها في التجارة منذ زمن بعيد وليس في الزراعة، وعُرفت أحيانًا بدمشق الصغرى لتشابه كبير بينها وبين دمشق عاصمة سوريا، فكان من الطبيعي أن يكون تأثر اللاجئين في مخيماتها وداخلها بهذه الهُوية الضاربة جذورها في التاريخ أكثر مما تأثرت المدينة، فصار اللاجئون فيها جزءًا من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المتبلور الموروث، وليس العكس.

ومثلها مدينة الخليل العريقة -أيضًا- التي يقع قربها مخيم الفوار، ونابلس والخليل مدن كبيرة وتقطنها عوائل وعشائر منذ قرون، وانتظم فيها نظام مجتمعي وعادات وتقاليد ترسخت وتراكمت معالمها عبر الزمن، بعكس مدينة جنين التي تُعَدُّ عائلاتها الأصلية (الجنينية) على أصابع اليد، وعددهم قليل، وسكنها فلاحون من محيطها لسبب أو آخر، أو سكان قدِموا من خارجها، من مدن أو قرى بعيدة نسبيًا عنها، إضافة إلى اللاجئين الذين هُجّروا قسرًا من أراضيهم في قرى مرج بني عامر وسهل زرعين، ومناطق الروحة والكرمل.

فكانت مدينة لينة سهلة التشكيل وفق من قدِموا إليها، لا بما ترسخ فيها من عادات وتقاليد وأعراف.

ومما يحمله اللاجئون كما ذكرنا في قلوبهم، جرح النكبة الغائر والرغبة في الثأر من الغزاة، والعودة إلى الديار.

،،،،،

من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين

تم النشر ،الثلاثاء 13 صفر 1445هـــ، 29-8-2023م

https://www.aljazeera.net/blogs/2023/8/29/%D9%85%D8%AE%D9%8A%D9%85-%D8%B5%D8%A7%D8%BA-%D9%87%D9%8F%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D8%A9

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...

إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة" تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن