إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة" تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن


ملاحظة:هذه المقالة جاءت بعد تعديلها من أ.وليد أبو بكر حيث ان الكاتبة إسراء اقترحت علي أن يعدلها وفي الآخر النص الأصلي.
إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة"
تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن
سري سمّور

عبر 126 صفحة من القطع المتوسط، تحاول الروائية الصاعدة والرسامة بل الفنانة الفلسطينية إسراء عبد الهادي عيسى رسم ألوان "حياة ممكنة"، مع ما يعتريها من مآس وانتكاسات وإخفاقات،وجروح غائرة، للفلسطيني الملاحق بالأذى والقهر والعدوان في كلّ مسامات حياته حيثما كان، في وطنه أم في مهجره القسري.
"حياة ممكنة" هو عنوان رواية إسراء الأولى، التي صدرت عن وزارة الثقافة الفلسطينية، ومع صغر الرواية إلا أنها قالت كثيرا، وأبحرت في عوالم متنوعة، وولجت حيوات أشخاص كثر، وحاكت خيوط حياة تراها ممكنة، مع كل المآسي والآلام والجراح، ونشرت عطر الأمل ليطغى على رائحة الموت والدمار التي انبعثت من أجزاء كثيرة من النصّ الروائي. أما زمن الرواية فهو ما بين 2002-2011م بشكل رئيس ومركز، تتخلله ذكريات أبعد.
استخدمت إسراء أسلوب سرد الشخصية، أي أن أحد شخوص يتحدث عن نفسه في مكان ما، وكانت الأماكن هي العاصمة البلجيكية بروكسل ونابلس وغزة. والشخوص فلسطينيون في غالبيتهم الساحقة عبر السرد الروائي، ولم تحاول الكاتبة القفز فوق الواقع والعيش في طوباوية مطلقة، أو مثالية رومانسية، فالفلسطينيون ليسوا كأسنان المشط، ومثلما فيهم البطل المجاهد فيهم من هو عميل أو متخاذل أو شائن السلوك، ولكن ما يجعل واقع الفلسطيني مختلفا عن غيره هو أن الاحتلال يتدخل وقتما يحلو له ليقلب سير أمور حياته، فهو يقلب فرح الفلسطيني إلى حزن وعرسه إلى مأتم، وطموحه إلى يأس وإحباط، ويحيل بسلاحه الفتاك أحباءه إلى أشلاء مبعثرة.
والاحتلال حاضر بقوة في الرواية، وهو الذي يرسم للفلسطيني ممرات إجبارية، لكن الكاتبة تؤكد عبر نصها أن الفلسطيني مهما أصابه لا يستسلم؛ وحتى ولو مرت عليه فترة من خيبة الأمل، فإنه سرعان ما ينهض من كبوته.
زياد ابن غزة يلتقي نرجس ابنة نابلس في الضفة في بروكسل عام 2011، وهو لقاء شبه مستحيل بين أبناء غزة والضفة فوق أرض فلسطين، مع أن بينهما لا يزيد عن ساعة سفر، لكن اللقاء أسهل وراء البحار، بسبب الاحتلال.
زياد ونرجس التقيا في حديقة، وكان لكل منهما سبب في الوجود في هذه العاصمة الأوروبية، لكن قهر الاحتلال، وأشياء أخرى تجمعهما: زياد انتهى به المطاف إلى العلاج في بروكسل، بعد تراجيديا لا حدود لها، فهذا الفلسطيني الغزّي يسكن منطقة تل الهوى في مدينته،وهو من أسرة فقيرة، مكونة من عدد كبير من الأفراد، ومع فقره وعدم حصوله على تعليم عال، إلا أنه يملك موهبة فنية، يعتبرها غريزية ومصدر رزق، فهو يرسم جداريات لبعض المؤسسات، ومنها جامعة الأزهر. وهناك يقع في حب الطالبة الجامعية سارة، التي تسكن منطقة الشيخ عجلين، وتتم الخطوبة مع أن سارة ليس لديها أي اهتمام بالجانب الفني، ومع أن زياد ليس مؤهلا علميا، لكن حبهما حطم الحواجز، وتحدد موعد عرس لم يقدّر له أن يتم.
الحرب على غزة بدأت، وتعرّض البرج الذي يقطن زياد في طابقه الأرضي في شقة يتكدس فيها الأطفال، للقصف، فقضى والده بسكتة قلبية، وحاول دفنه في الشقة بحفر قبر بأدوات المطبخ، لكن المآسي أخذت تتوالى أمامه، وبات يرى الموت يخطف أفراد أسرته واحداً تلو الآخر، يوما بعد يوم، وأسبوعا إثر أسبوع، وكان يتصل بالهلال الأحمر فتعتذر طواقمه عن الحضور لأن مقراتها تعرضت هي الأخرى للقصف.
ظلّ زياد يتمنى أن يموت قبل أن يتجرع الحزن على بقية أحبائه،لكنهم جميعا، الأب والأم والإخوة والأخوات، استشهدوا، جوعا وعطشا تحت الأنقاض،وبقي هو يصف موت الأخ الصغير "سليم" بحزن ممزوج بحنان وعجز ولوعة:  "هرعت دون وعي أو إدراك. وصل الخدر إلى دماغي الرطب من شدة البرد، وحملت جثته الصغيرة الهزيلة، وشهدت وجهه البريء المبتسم، وعينيه اللتين توجهان إلى العالم الآثم لوما لاعتقال طفولتهما. شعرت بأنه ينظر إليّ يستنجد بآخر أمل قد يعيده إلى الحياة، لكن سر الحياة هرب منه منذ دقائق. هل يعقل أن أحفر قبرا جديدا لطفل في الثالثة؟ صغير الدار وروحها، كيف يتركنا ويذهب بهذه البساطة؟ألا يكفي موت أبي؟
دور من بعدك يا أخي الحبيب، يا صغير الدار، يا سليم المشاغب؟ هل سيكون دوري أم دور أمي؟ أم إحدى أخواتي الحنونات؟ لا تبكين حبيباتي، فروحه التي تؤنس الدار صعدت إلى الجنة فور وفاته. ولا تخفن سأحفر قبورنا جميعا ابتداء من اللحظة. أجل سأحفرها في الصالة، وتحت مائدة الطعام. المكان الذي نجتمع فيه كل يوم لتناول طعام العشاء. الآن سنجتمع في هذا المكان على كل الوجبات في الليل والنهار والصيف والشتاء. سننام بهدوء متلاصقين لنمنح أجسادنا الميتة بعض الدفء. سأحكي لكن حكاياتي الجميلة تمنعكن من الأرق ..." ـ ص48.
ولم يتبق لزياد من أسرته سوى شقيقة واحدة هي هديل المصابة مثله، وحين يفيق في مشفى القدس، ويدرك حجم الكارثة، يبدأ بفقدان الرغبة في الحياة ويرى أن الوطن بات كابوسا من الموت والدمار والرعب. لكن مآسيه لا تتوقف، فالمشفى يقصف، ويفر زياد حاملا طفلا بترت أطرافه، ينقذه بتسليمه إلى مسعف، لكن قنابل الفسفور الأبيض تنهال على غزة لتصيب زياد المصاب أصلا في جسده وروحه، فيتشوّه ويفقد بصره. وحين تزوره خطيبته مع والدها يقول ما يرغب في دخيلة نفسه أن ترفضه: أن تخرج من حياته، وهذا ما التقطه والدها وهو يرى خطيب ابنته وقد تحول إلى كتلة لحم محترقة، لم يتبق منها إلا صوته الحزين.
وفي بروكسل يتزوج من سنتيا الأجنبية التي عشقها بجنون وتزوجها لكنها طلقها، لأنها كما يقول: "لم تستطع سنتيا تضميد جراحي، ولم تحتمل البقاء مع رجل يحمل في رأسه ملايين الأدمغة. كان قمر غزة يلاحقني أينما ذهبت. لم تكن لهذا القمر حدود ليقف عندها. كان يوقظني في منتصف الليل ليقول لي: ها أنا هنا ولن تستطيع الهرب مني"- ص91.
كأن الرواية تريد أن توصلنا إلى حكمة المثل الشعبي الفلسطيني "من طين بلادك حط عخدادك" بأن تقول إن ابنة الوطن هي القادرة على تضميد الجراح دون سواها من النساء، لأنها تحمل نفس الآلام والمعاناة، فالأجنبية قد تتعاطف مع الفلسطيني وقضيته، وقد تعشقه وتتزوجه، لكنها ليست دواء أحزانه الحقيقي.
لقد ظنت سنتيا أن الوسادة سبب ما يعانيه زوجها فغيرتها، ثم جعلته ينام بلا وسادة، لأنها لم تدرك تابوت الموتى والذكريات الأليمة التي يعيشها. لذلك كانت الحياة غير ممكنة بينهما، مع أن الرواية لم تقدّم شيئا من تفاصيل الحياة بينهما يهدف وصف سبب فشلها،وهو ما حمله زياد لنفسه بسبب أحزان تخصه وحده.
حتى هديل التي بقيت، والتي بذل زياد المستحيل حتى أنقذها من تحت ركام منزله في غزة، لم يعد قادرا على رعايتها، فسافرت مع عمته عائدة إلى الوطن لتتربى مع أقاربه وأطفالهم. لذلك كان زياد، حين التقته نرجس، وحيدا ويائسا محبطا، بلا بصر وبلا أسرة، ولا يدري لماذا أو لمن يعيش!
كما أن ابنة نابلس الفنانة الموهوبة نرجس، لا تخلو حياتها من مآس، وهي تحمل صندوق ذكريات خاص بها وبمدينتها: لقد لجأ جدها من مدينة حيفا، التي تقع في جزء آخر من الوطن، تستكمل به الضفة الغربية وقطاع غزة، فالمعاناة لا تقتصر على هذين الجزءين من الوطن الفلسطيني، لأن نكبة فلسطين بدأت قبل عقود طويلة، جاءت بالجد من حيفا إلى نابلس المدينة التي احتضنه هو والأولاد والأحفاد الذين سيحبونها ويصبحون جزءا منها، وتصبح جزءا منهم، فيحيون فرحها وحزنها، ويستشعرون آلامها وشموخها، لأن حجارة بيوت البلدة القديمة وأزقتها وأسواقها ومياهها لا تفرق بين أهلها الذين جاءوا من حيفا أو الذين سكنوها من قرون.
وتتذكر نرجس أحداث اجتياح نابلس عام 2002، بما فيها من القصف والدمار وما رافق ذلك من رعب. يقع بيت نرجس في البلدة القديمة التي شهدت أعنف الاشتباكات، ولم تكتف الكاتبة بالحديث على لسان نرجس التي تحول بيتها إلى ملجأ للجيران وبعض المقاومين، بل تتحدث بلسان المقاوم "قاسم" الذي يدور حوار بينه وبين زميله ورفيق سلاحه "يحيى" ليظهر أن الأول يريد الحياة، لأن له زوجة وأطفالا وأما، والثاني أي يريد الشهادة سواء بعد أن يقتل جنديا إسرائيليا أو يصيب الجنود بالرعب. ويفترق الاثنان دون أن يعتب أحد على صديقه، لكن صراعا يدور بين قاسم ونفسه، لأنه ترك يحيى الذي ظنه استشهد، ما يطرح جدلية قديمة-جديدة حول الأولوية أو المفاضلة بين صاحب المسئولية عن أسرة وأولاد وبين مسئوليته في المقاومة والدفاع عن الوطن.
كانت تلك هي حكاية اجتياح نابلس مع نرجس، ولكن ماذا عن نرجس الفتاة والإنسانة؟هل كانت تعيش في دعة وسكينة، ولا منغص عليها سوى الاحتلال؟ لا طبعا، فقد كانت تعاني من التمييز الطبقي لأنها ابنة حمّال (عتال)، ما دفعها للسعي إلى هدفها، أي كلية الفنون الجميلة، مع أن معلمات المدرسة حاولن قتل موهبتها، استهانة بها.
إلا أنها ستصل إلى هدفها، وستقيم معرضا لأعمالها الفنية في بروكسل، ووجودها هناك لم يكن كوجود زياد، مع أن كلاّ منهما، في نابلس وفي غزة، ذاق مع أسرته ويلات الاحتلال، وإن كانت مأساة زياد أكبر، بعد أن فقد بصره وتشوّه جسده، وفقد أسرته، وكأن الرواية تريد أن تؤكد حقيقة ملموسة، وهي أن معاناة أهل غزة أكبر من معاناة أهل الضفة بكثير.
ولم يكن التمييز هو المعاناة الوحيدة لنرجس، بل عانت من جارهم العجوز، ومن البقال القريب، لأن كلا منهما كان يتحرّش بها وهي طفلة، دون أن تجرؤ على البوح لأهلها، لأن تعامل أخيها معها هو الضرب. ولأنها لا تريد أن تقول أنها ضحية العنف الذكوري، فإنها تشير إلى أن والدها يحبها كثيرا، ولكنه يعجز عن الدفاع عنها أمام قسوة والدتها المحرضة لأخيها، كما أن الجميع من إخوة وأخوات في بيت نرجس ينظرون إليها على أنها مختلفة، بمعنى متمردة شاذة.
وفي بروكسل يلتقي زياد ونرجس، فيشعران ببعضهما. ومع شعور زياد وكأن بصره ارتدّ إليه، إلا أن قلبه كان مملوءاً بالحزن والكمد، ولا يرى في نفسه إنسانا يستحق الحياة. لكن نرجس كانت أجرأ، وبدأت بإخراجه من عزلته عبر الحوار، فإذا كان الوطن لم يعطنا غير الألم والتشرد فماذا أعطتنا الغربة؟ ثمّ تدعوه لحضور معرضها الذي يحضره مثقفون ومهتمون وطلبة جامعات يلمون بأدق تفاصيل القضية الفلسطينية الأمر الذي لا يثير دهشتها كفنانة وطنية مثقفة، وتستغله للحديث عن قضيتها أمامهم. ويلبي زياد الدعوة، لسبب لا يملك تفسيره، وإن كان السبب الذي دفعها لدعوته أصلا: إنه الحبّ الذي أخذ ينمو في قلبيهما، وينضج على نار هادئة.
لقد وجدت نرجس في زياد ما يطفئ نار شوقها إلى الوطن، خصوصا بسبب ما كان يجري في الوطن، من تهويد للقدس دون رد فعل شعبي أو رسمي في الضفة. وهي تصف حالها حين تتصفح الجريدة وتتوقف عند خبر من المدينة التي يفترض أنها عاصمة دولة فلسطين العتيدة، وقبل ذلك هي المدينة المقدسة عند الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، فتقول: "مقدسيون يحاولون منع متطرفين يهود من اقتحام المسجد الأقصى، في اليوم الثالث من احتفاليات افتتاح كنيس الخراب كما كان مخططا له. الكنيس الستون الذي يدشن في محيط المسجد الأقصى.
آلمتني هذه الأخبار، لكن ألمي تفاقم حين باءت محاولاتي أن أربط بين عنوان المقال وجسمه بالفشل. لم أكن أبحث بين السطور عن ردّات فعل عربية، ولا حتى عن ردّ فعل للسلطة على ما يحصل في القدس من تهويد مدروس. كنت أبحث عن مظاهرة صغيرة في أحد شوارع الضفة، وهذا أضعف الإيمان.
أمسكت بدمعة كادت تفر من عيني حين ألقيت بالجريدة جانبا، وسرت بخطى متثاقلة أتفقد الوضع وأقدّم شروحا طلبها مني بعض الزوار"- ص94.
ومثلما لا تبتعد الرواية عن الواقع وهي تخيط خيوط حياة أبطالها لتجعلها ممكنة، ولا تجعل الواقع بديلا للخيال، لأن الرواية عمل خيالي أولا وأخيرا، فإنها تتحدث عن عدوان يقوم به متطرف يهودي هو دوفي حاييم، الذي ظل حاضرا للاعتداء على معارض شاركت فيها منذ بدء مسيرتها الفنية، وهو الذي دفعها للكف عن رسم اللوحات الزيتية والاكتفاء بنحت الأجسام وتشكيلها، لأنه خرّب لوحة زيتية في معرض لها فجرحت مشاعرها وتألمت نفسها كثيرا، وهو يحضر هذه المرة في بروكسل،ومعه أقرانه في التطرف، يصول ويجول، ويكتب بالعبرية كلمة في دفتر الزوار، ولأنها لا تعرف العبرية، تبحث عن ترجمة، فتأخذ دفتر الزوار إلى شقتها، حيث يأتي زياد، يصارحها وتصارحه بذكريات أليمة من غزة ونابلس، ويكشف الحب الدفين عن نفسه، وفي غمرة تلك اللحظات العاطفية تنبعث رائحة الحريق في شقتها: لقد فعلها دوفي حاييم، وكان قد كتب على الدفتر اسم ملاك الموت.
ينجو الحبيبان من الحريق، وينجو المرسم، بعد أن بذل كل منهما جهده للنجاة الآخر، وكأن الرواية تريد أن تقول إن المحنة تجلب المنحة: فزياد استرد رغبته في الحياة حين شعر بخفقات قلبه، وعاد إلى الفن، بمساعدة نرجس التي وضعت أمامه الطين الذي كان يشكّله وهو يستمع إلى ملاحظات حبيبته الجديدة. ثم وصلت عمته مع أخته الناجية هديل لزيارته، فازداد سروره.
لقد رحلت سارة من حياة زياد الفنان المبصر، ولم تكن لها هواية بالفن، ولكن ها هي نرجس تقع في حب زياد الذي كف بصره وهي فنانة موهوبة تقام لها معارض في عواصم العالم الراقية، وتحقق النجاح فهل ستكون حياة زياد الغزّي الكفيف مع نرجس النابلسية المبصرة ممكنة أم لا؟
هنا، وقبل نهاية الرواية بقليل، تتدخل الكاتبة: فطوال الصفحات السابقة والقليلة التالية ظلت الشخصيات تتحدث عن نفسها وحالها دون تدخل السارد أما الآن فجاء وقت تدخل السارد: "لا يعرف ما الذي جاء به إلى هنا، وما الذي جعله يبتعد عنها؛ ليرجع أكثر شوقا ولهفة. أكثر حبا وتعلقا. لماذا هي؟ولماذا هو؟ هل ذلك لأن الحب مثل الولادة، ومثل الموت. يأتي بأمر الله فقط، ويذهب أيضا بأمر الله؟ كان عليه أن يكون صارما معها، كما كان صارما مع وطنه، لكن قلبه الذي حمله على القدوم إلى هنا؛ جاء يخبرها بأنها الوطن الذي برغم قسوته لا يمكن البعد عنه. امرأة بجمالها وأنوثتها وعظمة موهبتها، بمكانتها في الغربة والوطن، هل ترضى بنصف رجل؟ رائعة مثلها، ماذا تفعل بأنصاف الرجال؟
حاول أن يكون صاحب القرار. وأن تكون جميع الخيارات أمامه متاحة، لكن أسبوع البعد عنها جرّده من خياراته، وأبقاه أمام أمر واقع ليس به خيار، وهو حبها. أسبوع قلب فيه المواجع حاول نسيان حبه الصامت في تلك الحديقة، ثم عاد وتمنى أن ذلك الحب الصامت دام دون أن يمسه الكلام!" ـ ص 103.
ممكنة هذه الحياة، وأحسنت الرواية حياكة خيوطها لتخرج لوحة فنية جميلة، توحي بموهبة الكاتبة الفنية أيضا. وهي بجمع زياد ونرجس، وجعل حياتهما ممكنة، رغم كل العقبات النفسية والجغرافية والاجتماعية، تريد أن تقول إن الوطن قابل للالتحام من جديد، وعلى لسان زياد جاءت الأمنية التي تعمر قلب كل الحزينين من الشرخ القائم: "تعالي ولوذي بصدري لتسمعي أنات قلب ما عاد قادرا على الكتمان.تعالي والتحمي معي ليعود الوطن فيّ وفيك للالتحام من جديد.أحبك.لا يا حبيبتي،لا أحبك فحسب،هناك شيء أكبر من الحب.شيء نحس به.ولا نستطيع قوله.سأسميك الوطن.وستكونين أمي التي فقدتها.ستكونين بيتي الذي هدم.وستكونين ابنتي التي لم أنجبها بعد"ـ ص 123.
هي ليست رواية حب بين شاب وفتاة كل منهما عانى ظروفا والتقيا في الغربة، هي أكبر من ذلك، هي قصة الوطن، وقصة التحدي، والصمود والإصرار على النجاح، ورفض الاستسلام للاحتلال، أو للظروف التي تسبب بها هذا الاحتلال. أنها أمامنا بأبعادها الفيزيائية والشعورية!
لقد وضعت إسراء عيسى اللبنة الأولى لمشروع روائية فلسطينية وعربية صاعدة، وأرجو ألا تظل أسيرة العمل المميز الواحد، وان تكون لنا وقفات أخرى مع كتبها القادمة.
******************
النص الأصلي قبل التعديل:-
إسراء عيسى تحاول حياكة خيوط حياة ممكنة
بقلم:سري سمور
عبر 126 صفحة من القطع المتوسط تحاول الروائية الصاعدة والرسامة بل الفنانة الفلسطينية إسراء عبد الهادي عيسى رسم ألوان حياة ممكنة،مع ما يعتريها من مآس وانتكاسات وإخفاقات،وجروح غائرة،وهذا طبعا للفلسطيني الملاحق بالأذى والقهر والعدوان في كل مسامات حياته حيثما كان،في وطنه أم في مهجره القسري.
حياة ممكنة هو عنوان الطبعة الثانية من رواية إسراء الأولى،وقد نشرت الأولى في القاهرة تحت عنوان "أدمغتي المليون" وفازت بالجائزة الثانية من مسابقة ديوان العرب ،أما الثانية أي حياة ممكنة فصدرت عن الإدارة العامة للآداب والنشر التابعة لوزارة الثقافة في البيرة،وقد جاء توضيح من ناشر الطبعة الثانية التي بين أيدينا أن الكاتبة أجرت على "أدمغتي المليون" تعديلات أساسية،فما يهمنا الآن هو حياة ممكنة لا أدمغتي المليون،وقد  أهدتني إسراء  نسخة منها مشكورة.
ومع صغر الرواية إلا أنها قالت كثيرا،وأبحرت إسراء عيسى في عوالم متنوعة،وولجت حيوات أشخاص كثر،وحاكت خيوط حياة تراها ممكنة،مع كل المآسي والآلام والجراح ،ونشرت عطر الأمل ليطغى على رائحة الموت والدمار التي انبعثت من أجزاء كثيرة من النص الروائي،أما زمن الرواية فهو ما بين 2002-2011م بشكل رئيس ومركز،تتخلله ذكريات أبعد.
استخدمت إسراء أسلوب سرد الشخصية،أي يتحدث أحد شخوص أو أبطال الرواية عن نفسه في مكان ما،وكانت الأماكن هي العاصمة البلجيكية بروكسل ونابلس وغزة.
فلسطينيون هم الأبطال والشخوص بغالبيتهم الساحقة عبر السرد الروائي،ولم تحاول إسراء عيسى القفز فوق الواقع والعيش في الطوباوية المطلقة،والمثالية الرومانسية،فالفلسطينيون ليسوا كأسنان المشط،فمثلما فيهم البطل المجاهد فيهم من هو عميل أو متخاذل أو شائن السلوك،ولكن ما يميز الفلسطيني عن غيره أن الاحتلال يتدخل وقتما يحلو له ليغير مسار حياته ويقلب سير  أمور حياتية بسيطة لإنسان آخر على سطح هذا الكوكب،فالاحتلال يقلب فرح الفلسطيني إلى حزن وعرسه إلى مأتم،وطموحه إلى يأس وإحباط،ويحيل بسلاحه الفتاك أحباءه إلى أشلاء مبعثرة،وطبعا الاحتلال حاضر وبقوة في رواية إسراء عيسى،وكيف لا يحضر،وهو الذي رسم للفلسطيني ممرات إجبارية،لكن إسراء تؤكد عبر نصها الروائي أن الفلسطيني مهما أصابه من لأواء لا يستسلم حتى ولو مرت عليه فترة من اليأس والسوداوية فسرعان ما ينهض من كبوته.
زياد ابن غزة يلتقي نرجس ابنة نابلس أي ابنة الضفة في بروكسل عام 2011م ،وهو لقاء شبه مستحيل بين أبناء غزة والضفة فوق أرض فلسطين،مع أن غزة لا تبعد عن الضفة ساعة سفر،لكن اللقاء أسهل وراء البحار،بسبب الاحتلال.
وحضرت فورا من صندوق الذاكرة الروائية ملحمة الراحل عبد الرحمن منيف "الآن هنا..أو شرق المتوسط مرة أخرى" حين يلتقي سجينان سياسيان سابقان في براغ التي سافر كل منهما إليها للعلاج،أحدهما من دولة عربية نفطية(موران) والآخر من دولة عربية غير نفطية(عمورية) وكل منهما تعرض للتعذيب وتشويه الروح والجسد...زياد و نرجس التقيا في مشفى في بروكسل ولكن كل منهما له سبب في الوجود في هذه العاصمة الأوروبية،لكن قهر الاحتلال،وأشياء أخرى تجمعهما،ومنيف جعلهما رجلان ،أما إسراء فجعلتهما شابا وفتاة!
زياد انتهى به المطاف إلى العلاج في بروكسل،بعد تراجيديا لم تنته،فهذا الفلسطيني الغزي يسكن منطقة تل الهوى في مدينة غزة،وهو من أسرة فقيرة،مكونة من عدد كبير من الأفراد،ومع فقره وعدم حصوله على تعليم عال،إلا أنه صاحب موهبة فنية،يعتبرها هو غريزة ومصدر رزق،فهو يرسم جداريات لمؤسسات منها جامعة الأزهر،وهناك يقع في حب الطالبة الجامعية سارة،التي تسكن منطقة الشيخ عجلين،وتتم الخطوبة مع أن سارة لا موهبة فنية لديها ولا اهتمام بالجانب الفني،ومع أن زياد ليس مؤهلا علميا،لكن حبهما حطم كل الحواجز،وتحدد موعد العرس،الذي لم يتم.
فالحرب على غزة بدأت وتعرض البرج الذي يقطنه زياد إلى القصف وهو يقيم في الطابق الأرضي في شقة يتكدس فيها الأطفال،ويقضي والده بسكتة قلبية،ويحاول دفنه في الشقة بحفر قبر بأدوات المطبخ،وتتوالى المآسي أمام ناظري زياد وهو يرى الموت يتخطف أفراد أسرته واحدا تلو الآخر،ويوما بعد يوم، وأسبوعا إثر أسبوع،يتصل بالهلال الأحمر فتعتذر طواقمه عن الحضور لأن مقراتها تعرضت هي الأخرى للقصف،وهنا في الصفحة 43 وقعت إسراء في خطأ فزياد جاءته رسالة صوتية وهو يتحدث مع الهلال الأحمر بأنه بقيت له دقيقة اتصال واحدة من الجوال،هذا يحدث عادة في الجوالات التي تعمل بنظام الكرت ولكن الاتصال بالهلال الأحمر (101) مجاني بل يمكن الاتصال بلا شريحة على رقم طوارئ!
زياد يتمنى أن يموت قبل أن يتجرع الحزن على أحبائه،الأب والأم والإخوة والأخوات،كلهم استشهدوا،إما بالسكتة القلبية أو من الجوع والعطش وهم تحت الأنقاض،ويصف موت الأخ الصغير "سليم" بحزن ممزوج بحنان وعجز ولوعة:-
"هرعت دون وعي أو إدراك.وصل الخدر إلى دماغي الرطب من شدة البرد،وحملت جثته الصغيرة الهزيلة،وشهدت وجهه البريء المبتسم،وعينيه اللتين توجهان إلى العالم الآثم لوما لاعتقال طفولتهما.شعرت بأنه ينظر إلي يستنجد بآخر أمل قد يعيده إلى الحياة،لكن سر الحياة هرب منه منذ دقائق.
هل يعقل أن أحفر قبرا جديدا لطفل في الثالثة؟صغير الدار وروحها،كيف يتركنا ويذهب بهذه البساطة؟ألا يكفي موت أبي؟
دور من بعدك يا أخي الحبيب،يا صغير الدار،يا سليم المشاغب؟هل سيكون دوري أم دور أمي؟أم إحدى أخواتي الحنونات؟لا تبكين حبيباتي،فروحه التي تؤنس الدار صعدت إلى الجنة فور وفاته.ولا تخفن سأحفر قبورنا جميعا ابتداء من اللحظة.أجل سأحفرها في الصالة،وتحت مائدة الطعام.المكان الذي نجتمع فيه كل يوم لتناول طعام العشاء.الآن سنجتمع في هذا المكان على كل الوجبات في الليل والنهار والصيف والشتاء.سننام بهدوء متلاصقين لنمنح أجسادنا الميتة بعض الدفء.سأحكي لكن حكاياتي الجميلة تمنعكن من الأرق ..." –ص48-...ولم يتبق له من أسرته سوى شقيقة واحدة هي هديل المصابة مثله،يفيق في مشفى القدس،ويدرك حجم الكارثة ويبدأ بفقدان الرغبة في الحياة ويرى أن الوطن بات كابوسا من الموت والدمار والرعب.
ولكن مآسي زياد لم تتوقف وكأن الاحتلال لم يكتف بأخاديد الحزن التي حفرها في حياته،فمشفى القدس يقصف،ويفر زياد حاملا طفلا بترت أطرافه،ينقذه بتسليمه إلى مسعف،ولكن قنابل الفسفور الأبيض تنهال على غزة لتصيب زياد المصاب أصلا في جسده وروحه،فيتشوه ويفقد بصره،وحين تحضر خطيبته سارة إلى مشفى الشفاء مع والدها يقول زياد ما يرغب في دخيلة نفسه أن ترفضه سارة أي أن تخرج من حياته،وهذا ما يريده والده وهو يرى أمامه زياد وقد تحول إلى كتلة لحم محترقة،لم يتبق فيها إلا صوته الحزين،ويتم زياد إجراءات الطلاق بوكالة إلى عمته وهو في بروكسل!
وفي بروكسل يتزوج من سنتيا الأجنبية التي عشقها بجنون وتزوجها ثم طلقها،حيث يقول زياد:"لم تستطع سنتيا تضميد جراحي،ولم تحتمل البقاء مع رجل يحمل في رأسه ملايين الأدمغة،كان قمر غزة يلاحقني أينما ذهبت.لم تكن لهذا القمر حدود ليقف عندها.كان يوقظني في منتصف الليل ليقول لي:ها أنا هنا ولن تستطيع الهرب مني"-ص91-
هل تريد إسراء عيسى أن توصلنا لحكمة المثل الشعبي الفلسطيني "من طين بلادك حط عخدادك" وهل تريد أن تقول أن ابنة الوطن هي القادرة على تضميد الجراح دون سواها من النساء،لأنها تحمل نفس الآلام والمعاناة،فالأجنبية قد تتعاطف مع الفلسطيني وقضيته وقد تعشقه وتتزوجه لكنها ليست دواء أحزانه الحقيقي؟لأن سنتيا ظنت أن الوسادة سبب ما يعانيه زوجها زياد فغيرتها،ثم جعلته ينام بلا وسادة،لأنها لم تدرك تابوت الموتى والذكريات الأليمة التي يعيشها زياد...فالحياة مع سنتيا غير ممكنة بالنسبة لزياد،وكذلك بالنسبة لسنتيا...وهنا أرى أنه كان على إسراء عيسى تخصيص صفحات قليلة تتحدث بها سنتيا عن حياتها مع زياد،فهنا حكم زياد على حياته مع سنتيا أو وصف سبب فشلها،ومع أنه حمل نفسه وأحزانه المسئولية،إلا أن من التوازن إتاحة مساحة للعشيقة والزوجة الأجنبية أن تصف حالتها وحياتها مع زياد!
جملة معترضة: الواقع غريب فعلا،فغسان كنفاني تزوج متعاطفة مع قضية اللاجئين،بعد أن أحبها وهي الدنماركية آن...ما زال هذا الأمر محيرا لي حقيقة،فحين تقرأ غسان وتعرف سيرته لا يمكن تصور أمر كهذا،لكن هذا ما حصل فعلا!
وحتى هديل التي بقيت والتي بذل زياد المستحيل وأنقذها من تحت ركام منزله في غزة لم يعد قادرا على رعايتها لهذا سافرت مع عمته عائدة إلى الوطن حيث ستتربى مع أقاربه وأطفالهم،وهذا هو الحل الأنسب،فزياد حين التقته نرجس كان يائسا محبطا بلا بصر وبلا أسرة،ولا يدري لماذا ولمن يعيش!
وابنة نابلس الفنانة الموهوبة نرجس، لا تخلو من مآس،وتحمل صندوق ذكريات خاص بنرجس الإنسانة ومدينتها نابلس،المدينة التي كان لها نصيب من إهداء الرواية الذي خطه يراع إسراء عيسى.
نرجس لجأ جدها من مدينة حيفا...ذكاء الروائية إسراء لا يخونها،فالوطن ليس غزة ونابلس،أي ليس الضفة الغربية وقطاع غزة،والمعاناة لا تقتصر على هذين الجزءين من الوطن الفلسطيني،فنكبة فلسطين بدأت قبل عقود طويلة...من حيفا يلجأ الجد إلى نابلس المدينة التي تحتضنه هو والأولاد والأحفاد الذين سيحبون نابلس،فيصبحون جزءا منها،وتصبح جزءا منهم،يحيون فرحها،وحزنها،ويستشعرون آلامها،وشموخها،بحيث لا تفرق حجارة بيوت البلدة القديمة وأزقتها وأسواقها ومياهها عن أهلها الذين جاءوا من حيفا أو الذين سكنوها من قرون.
وتتحدث نرجس عن أحداث اجتياح نابلس عام 2002م حيث القصف والدمار،والخوف والرعب،فبيت نرجس في البلدة القديمة التي شهدت أعنف الاشتباكات في المدينة،ولم تكتف إسراء عيسى بالحديث على لسان نرجس التي تحول بيتها لملجأ للجيران ولبعض المقاومين،بل تتحدث بلسان المقاوم "قاسم" حيث يدور حوار بينه وبين زميله ورفيق سلاحه "يحيى" وكيف أن الأول يريد الحياة لأن له زوجة وأطفالا وأما،والثاني أي يحيى يريد الشهادة سواء بعد أن يقتل جنديا إسرائيليا أو يصيب الجنود بالرعب،ويفترق الإثنان دون أن يعتب يحيى على صديقه،ولكن صراعا يدور بين قاسم ونفسه،حين ترك يحيى الذي ظنه قد استشهد(لم يستشهد يحيى ولكنه أصيب وعالج نفسه وعالج امرأة أصابها بالخطأ وهي وداد أخت نرجس) فماذا تريد إسراء أن تقوله هنا؟ما هو بدهي وهو التآلف بين الناس وقت الحروب والكوارث،خاصة أهالي البلدة القديمة في نابلس،فالمقاومون وجدوا حسن ضيافة من الناس،والناس تقاسموا الطعام مع بعضهم...هذا مفهوم،ولكن الحوار بين قاسم ويحيى وحوار الأول  مع نفسه أرادت به إسراء أن تطرح جدلية قديمة-جديدة وهي الأولوية أو المفاضلة بين صاحب المسئولية عن أسرة وأولاد وبين مسئوليته في المقاومة والدفاع عن الوطن؟ولكن ما الفائدة وقد سقطت نابلس بيد الجيش الإسرائيلي؟ولكن يحيى لم يستشهد وهو الذي كان يبحث عن الشهادة ويسعى وراءها،هل تريد إسراء القول بأن ما أصاب المرء لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كما في الأثر المشهور؟وهل ترى أن على قاسم وأمثاله- وما أكثرهم- أن يقدموا قضية الدفاع عن أوطانهم على سعيهم لرعاية أسرهم وعدم التسبب بفجيعة للأم والزوجة والأولاد؟تبقى القضية جدلية قبل وبعد إثارتها في هذا النص الروائي ونصوص أخرى لغسان كنفاني وغيره،على كل فإن إسراء عيسى أبقت الأمر في إطار الجدل القابل لانقسام الرأي.
تلك هي حكاية اجتياح نابلس مع نرجس،ولكن ماذا عن نرجس الفتاة والإنسانة؟هل كانت تعيش في دعة وسكينة،ولا منغص عليها سوى الاحتلال؟لا طبعا فنرجس تعاني التمييز الطبقي لأنها ابنة حمّال(عتال) ولعل هذا التمييز الذي أحست به نرجس دفعها للسعي إلى هدفها أي كلية الفنون الجميلة، مع أن معلمات المدرسة حاولن قتل موهبتها،لأنها بنظرهن ليست سوى ابنة حمّال،إلا أنها ستصل إلى هدفها وستقيم معرضا لأعمالها الفنية في بروكسل،فوجودها في بروكسل لم يكن ذات سبب وجود زياد،مع أن كلاّ منهما في نابلس وفي غزة ذاق مع أسرته ويلات الاحتلال،وإن كانت مأساة زياد أكبر،فقد فقد بصره وتشوّه جسده،وفقد أسرته...وكأن إسراء تريد أن تؤكد حقيقة ملموسة وهي أن معاناة أهل غزة أكبر من معاناة أهل الضفة بكثير.
وتعاني نرجس من جارهم العجوز وكذلك من البقال فكل منهما يتحرّش بها وهي طفلة،ولا تجرؤ على البوح بما تتعرض له لأهلها،وطريقة أخيها محمد في التعامل معها هي الضرب،ولكن نرجس لا تريد أن تقول أنها ضحية العنف الذكوري،بل هي تعرف أن والدها يحبها كثيرا ولكنه يعجز عن الدفاع عنها أمام قسوة والدتها المحرضة لأخيها،ولكن –باستثناء والدها- فإن الجميع من إخوة وأخوات في بيت نرجس ينظرون إليها على أنها مختلفة بمعنى متمردة شاذة.
وفي بروكسل يلتقيان،زياد ونرجس،يشعران ببعضهما،وكأن زياد قد ارتد عليه بصره،لكن زياد قلبه مملوء بالحزن والكمد،ولم يعد يرى في نفسه إنسانا يستحق الحياة أصلا...ولكن نرجس كانت الأجرأ فقد بدأ بإخراجه من عزلته عبر حوارات ونصائح،فإذا كان الوطن لم يعطنا غير الألم والتشرد فماذا أعطتنا الغربة(تسأل نرجس زيادا)،ثم تدعوه لحضور معرضها،هذا المعرض الذي يحضره مثقفون ومهتمون وطلبة جامعات كانوا يلمون بأدق تفاصيل القضية الفلسطينية وهو أمر لم يثر دهشة نرجس الفنانة الوطنية المثقفة،و نرجس تتحدث عن قضيتها لزوار معرضها،ويلبي زياد دعوة نرجس،لشيء ما لا يعرف تفسيره،وهو الشيء الذي دفع نرجس لدعوته...إنه الحب الذي ينمو ويكبر في قلبيهما،وينضج على نار هادئة.
لقد وجدت نرجس في زياد ما يطفئ نار شوقها إلى وطنها،وشيء آخر غير الشوق وهو الألم لما يجري في الوطن،وخاصة تهويد القدس حيث لا رد فعل شعبي أو رسمي في الضفة،وتصف حالها وهي تتصفح الجريدة وتتوقف عند خبر من المدينة التي يفترض أنها عاصمة دولة فلسطين العتيدة،وقبل ذلك هي المدينة المقدسة عند الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين ،فتقول نرجس:-
"مقدسيون يحاولون منع متطرفين يهود من اقتحام المسجد الأقصى،في اليوم الثالث من احتفاليات افتتاح كنيس الخراب كما كان مخططا له.الكنيس الستون الذي يدشن في محيط المسجد الأقصى.
آلمتني هذه الأخبار،لكن ألمي تفاقم حين باءت محاولاتي أن أربط بين عنوان المقال وجسمه بالفشل.لم أكن أبحث بين السطور عن ردّات فعل عربية،ولا حتى عن ردّ فعل للسلطة على ما يحصل في القدس من تهويد مدروس.كنت أبحث مظاهرة صغيرة أحد شوارع الضفة،وهذا أضعف الإيمان.
أمسكت بدمعة كادت تفر من عيني حين ألقيت بالجريدة جانبا،وسرت بخطى متثاقلة أتفقد الوضع وأقدّم شروحا طلبها مني بعض الزوار"- ص94-
ومثلما لا تبتعد إسراء عيسى، وهي تخيط خيوط حياة أبطالها لتجعلها ممكنة،عن الواقع ولا تجعل الواقع بديلا للخيال لأن الرواية عمل خيالي أولا وأخيرا،فقبل سنوات حطم السفير الإسرائيلي في السويد عملا فنيا لأنه يحوي صورة الاستشهادية هنادي جرادات وهي محامية فلسطينية من جنين انتقمت لشقيقها وخطيبها بالطريقة التي رأتها مناسبة...إسراء عيسى  الآن تتحدث عن عدوان يقوم به متطرف يهودي هو دوفي حاييم،الذي ظل حاضرا للاعتداء على معارض شاركت فيها منذ بدء مسيرتها الفنية،وهو الذي دفعها للكف عن رسم اللوحات الزيتية،والاكتفاء بنحت الأجسام وتشكيلها،لأنه خرّب لوحة زيتية في معرض لها فجرحت مشاعرها وتألمت نفسها كثيرا،وهذه المرة في بروكسل يحضر،ومعه قرناءه في التطرف يصول ويجول ويكتب بالعبرية كلمتين في دفتر الزوار،لا تعرف العبرية،تريد ترجمة الكلمتين تأخذ دفتر الزوار إلى شقتها،حيث يأتي زياد،يصارحها وتصارحه بذكريات أليمة من غزة ونابلس،ويكشف الحب الدفين عن نفسه،وفي غمرة تلك اللحظات العاطفية الدرامية تنبعث رائحة الحريق في شقتها،فعلها دوفي حاييم،وكان قد كتب على الدفتر (ملاك الموت) ينجو الحبيبان وينجو المرسم فقد بذل كل منهما جهده لنجاة الآخر...ونجاة المرسم!
وكأن إسراء عيسى تقول أن المحنة تجلب المنحة فزياد استرد رغبته في الحياة حين شعر بخفقات قلبه وقلب نرجس،وعاد إلى الفن،نعم عاد بمساعدة نرجس التي وضعت أمامه الطين الذي كان يشكّله،ويستمع لملاحظات حبيبته الجديدة،وجاءت عمته مع أخته الناجية هديل لزيارته فازداد سروره...سارة رحلت من حياة زياد الفنان المبصر،ولم تكن لها هواية بالفن،ولكن ها هي نرجس تقع في حب زياد الذي كف بصره وهي فنانة موهوبة تقام لها معارض في عواصم العالم الراقية،وتحقق النجاح فهل حياة زياد الغزي الكفيف مع نرجس النابلسية المبصرة ممكنة أم لا؟...وهنا تتدخل إسراء عيسى في الصفحة 103 ،فطوال الصفحات السابقة والقليلة التالية كانت الشخصيات تتحدث عن نفسها وحالها دون تدخل السارد أما الآن فجاء وقت تدخل السارد:-
"لا يعرف ما الذي جاء به إلى هنا،وما الذي جعله يبتعد عنها؛ليرجع أكثر شوقا ولهفة.أكثر حبا وتعلقا.لماذا هي؟ولماذا هو؟هل ذلك لأن الحب مثل الولادة،ومثل الموت.يأتي بأمر الله فقط،ويذهب أيضا بأمر الله.كان عليه أن يكون صارما معها،كما كان صارما مع وطنه،لكن قلبه الذي حمله على القدوم إلى هنا؛جاء يخبرها بأنها الوطن الذي برغم قسوته لا يمكن البعد عنه.
امرأة بجمالها وأنوثتها وعظمة موهبتها،بمكانتها في الغربة والوطن،هل ترضى بنصف رجل؟رائعة مثلها،ماذا تفعل بأنصاف الرجال.
حاول أن يكون صاحب القرار.وأن تكون جميع الخيارات أمامه متاحة،لكن أسبوع البعد عنها جرده من خياراته،وأبقاه أمام أمر واقع ليس به خيار،وهو حبها.
أسبوع قلب فيه المواجع حاول نسيان حبه الصامت في تلك الحديقة،ثم عاد وتمنى أن ذلك الحب الصامت دام أن يمسه الكلام!"
نعم ممكنة هذه الحياة،وأحسنت إسراء عيسى حياكة خيوطها لتخرج لوحة فنية جميلة،فإسراء فنانة ورسامة قبل أن تكون روائية،وهي بحب زياد ونرجس وحياتهما الممكنة رغم كل العقبات النفسية والجغرافية والاجتماعية،تريد أن تقول أن الوطن قابل ليلتحم من جديد،وعلى لسان زياد في الصفحة 123 جاءت أمنيته وكل الحزينين من الشرخ القائم:-
"تعالي ولوذي بصدري لتسمعي أنات قلب ما عاد قادرا على الكتمان.تعالي والتحمي معي ليعود الوطن فيّ وفيك للالتحام من جديد.أحبك.لا يا حبيبتي،لا أحبك فحسب،هناك شيء أكبر من الحب.شيء نحس به.ولا نستطيع قوله.سأسميك الوطن.وستكونين أمي التي فقدتها.ستكونين بيتي الذي هدم.وستكونين ابنتي التي لم أنجبها بعد"
هي ليست رواية حب بين شاب وفتاة كل منهما عانى ظروفا والتقيا في الغربة،هي أكبر من ذلك،هي قصة الوطن،وقصة التحدي،والصمود والإصرار على النجاح،ورفض الاستسلام للاحتلال،أو للظروف التي تسبب بها هذا الاحتلال...هكذا حاكت إسراء عيسى خيوط الحياة الفلسطينية الممكنة بدليل أنها أمامنا بأبعادها الفيزيائية والشعورية!
ويبقى أن أقول أن إسراء عيسى قد وضعت اللبنة الأولى لمشروع روائية فلسطينية وعربية وربما عالمية صاعدة،وأرجو الله ألا تظل أسيرة العمل المميز الواحد المنفرد،سواء بما تكتبه،أو بنظر القارئين والناقدين...ونرجو الله أن يوفقها في أعمالها القادمة وان يكون لي مع كتبها القادمة وقفات أخرى.
سري سمور
جنين








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...