ترميم الثقافة الوطنية(3-3)




ترميم الثقافة الوطنية(3-3)
-الجزء الثالث-
بقلم:سري سمّور

(8)كيف نرمم ثقافتنا الوطنية

علينا ألا نكابر ونعمد إلى إنكار التشوّه الذي أصاب ثقافتنا الوطنية في الصميم وأصبح حالنا لا يغيظ عدوا ولا يسر صديقا، ومهما حاولنا الإنكار، وادّعاء  إنجازات وتضخيمها، فنحن أمام حقيقة بطعم العلقم؛ وهي أننا فقدنا الجغرافيا أو معظمها، ولو بقينا على حالنا هذه سنصبح خارج التاريخ، وليس بخداع النفس بأن مجرد بقاءنا فوق أرض تتناقص من تحت أقدامنا وتتسرب من بين أيدينا، هو أكبر نصر، وأعظم جهاد، و هو غاية المنى، وهو كل ما يمكننا فعله...ومع أن ثـقافتنا الوطنية اعتراها التشوّه وأصابها كثير من الخراب، إلا أنها قابلة للإصلاح، ولهذا اخترت كلمة «ترميم» عنوانا للمقال، فالخير موجود، والطاقات هائلة، لو أحسن استغلالها، وهنا لن أوجه الكلام لمؤسسات أو لجهات عامة فقط،بل سأكون فرديا في معظم النقاط، لأن التزام كل فرد وعمله يصب في خانة المجموع، وعليه فإن ترميم الثقافة الوطنية خاصتنا يتحقق بما يلي:-
1) إزالة فكرة كون إسرائيل قدر أبدي، وأن الصراع معها إلى يوم القيامة؛ فإسرائيل كيان استعماري قابل للتفكيك مثله مثل غيره؛ وفي ذات الوقت عدم النظر باستهتار إلى إسرائيل والتواكل بأنها كيان طارئ وجسم غريب وستنتهي بسبب ما في داخلها من مشكلات أو تناقضات، وبسبب إنجابنا للأطفال، فهذا هراء ووهم، ولنكن على قناعة أن هذا الكيان يعيش مرحلة حرجة، وهو ليس بذات الجبروت والقدرة قبل عشرات السنين.
2) هنا فلسطين مركز الصراع الكوني، وكل ما في الأرض من صراعات تنسى وتصبح ثانوية إذا اشتعل الوضع في فلسطين؛ فأنت أيها الفلسطيني، مع ضعفك وقلة حيلتك وهوانك على القريب والبعيد، يمكنك أن تجعل العالم كله يقف على رؤوس أصابع قدميه، وأن يتوسل لك القاصي والداني  كي تهدأ إذا ثرت...لا تستهن بنفسك، وإياك أن تقلل من شأنك، وفي ذات السياق فإن لغة الاستعطاف والاسترحام لا تجدي، فأنت تواجه عالما متوحشا فقد كل ضمير وتواطأ أقوياؤه على سلبك أرضك وتشريدك فلا تستجدي.
3) كل منا يجب أن يكون مقتنعا حتى النخاع ألا حياة طبيعية وإسرائيل موجودة، والركون إلى الخلاص الفردي، والاعتقاد أو الظن بأن السلامة الشخصية دائمة وأكيدة ما لم يكن ثمة صدام بين الإنسان الفلسطيني مع الاحتلال، محض وهم وخدعة، وعلى كل فرد أن يدرك ذلك ويقنع أسرته ومحيطه بهذه الحقيقة، وأقول وأصر على أنها حقيقة لا يجب النظر إليها كوجهة نظر قابلة للنقاش.
4)  بناء عليه على كل فلسطيني أن يدرك أن المس بأي فلسطيني، حتى لو اختلفت معه سياسيا أو شخصيا هو مس بك جسديا ونفسيا، والوصول لهذه الحالة من الإدراك سيزيل كل العقبات والشروخ التي أصابت الجسد الفلسطيني.
5)  للأسف هناك من وصل به الحال إلى قناعة بأنه حتى لو عادت فلسطين من النهر إلى البحر فإن وضعه لن يتغير، بل هو الآن ربما ما كان ليحوز على ما حاز من مال أو متاع لو كانت فلسطين غير مغتصبة...هذه القناعة يجب أن تزال بيقين تام أن المعركة ليست معركة أمة وهوية فقط، بل معركة شخصية أيضا وأنك أيها الفلسطيني مهدد بوجودك الشخصي الذي يتناقض مع وجود إسرائيل.
6) الأرض هي لب الصراع، وعليه فإن كل من يقف معنا حقيقة لاسترداد أرضنا له كل الاحترام والتقدير، والوقوف لا يكون بكلمات وخطب رنانة أو مواقف باهتة، بل بإجراءات فعلية حقيقية يحسها الفرد، ولا يعني هذا أن أتبنى فكر وآراء من يقف معي في كل شأن، وأن أصبح مجرد تابع، أو بالتعبير الصريح ذنبا له، فالعلاقة مصلحية وندية، ومن يقف مع فلسطين هو الرابح ولو بعد حين.
7) إن العرب لن يحركوا جيوشهم كي ينقذوا المسجد الأقصى، فهم لم يفعلوا ذلك عندما كانوا لا يعترفون بإسرائيل رسميا، فكيف وهم يلهثون وراءها كي تمنّ عليهم بسلام معها، فالأمر منوط بنا، وعلينا الاعتماد على ذاتنا وألا نكرر الخطيئة المكررة بالاعتماد عليهم أو تعليق الأمل بهم، وهنا قد يطرح سؤال نفسه:هل نحن قادرون وحدنا على تحرير فلسطين؟والرد على السؤال بسؤال آخر:وهل انتظار جيوش العرب والمسلمين الجرارة يفيدنا أو يوقف تمدد المشروع الصهيوني؟إن العرب لهم دور لا شك في عملية التحرير ولكن هذا الدور لم تتهيأ ظروفه بعد، ومن الحمق انتظار هذه الظروف، وعليه على الفلسطيني أن يعمل وليس في قلبه أي ذرة من أمل بأن العرب رسميا وشعبيا سيقدمون له أكثر مما يقدمون، بل قد يطعنونه من الخلف كما فعلوا سابقا.
8) حياتنا صارت استهلاكية إلى حد كبيرة، ومن الصعب الملامس للمحال أن نتغلب على نمط حياتنا المناقض لما يفترض أن يحياه شعب تحت الاحتلال، وعليه يجب العمل على وقف زيادة وتيرة النمط الاستهلاكي ، وليس العودة إلى الوراء حاليا فهذا كلام في الهواء، لنبرمج أنفسنا على أنه يكفي ما نحن فيه من حياة قائمة على الاستهلاك، ولا نريد المزيد، وهذه معركة صعبة لأن ثمة اقتصاد استهلاكي، ولكن بالتدريج فإن الإرادة تنتصر.
9) ومرض الوجاهة وحب الزعامة قاتل لكل الأمم وهو بلا ريب أشد فتكا بشعب مثل شعبنا مهدد بوجوده وكيانه، ولمحاربة هذا المرض بل الوباء يجب أن نزرع في أنفسنا وفي أولادنا احترام الإنسان العادي البسيط من غير ذوي المال والجاه، وبهذا يفتر توجه المرء نحو الوجاهة لأن كثيرا يسعى إليها، لأن الناس –للأسف-لا يحترمون إلا من كان ذا منصب أو مال أو عائلة مرموقة.
10)      زيادة التوعية السياسية، لا سيما في المناطق الريفية المهددة بسرطان الاستيطان- باتجاه جعل الانتماء العشائري أو العائلي هامشي، مقابل الانتماء السياسي والوطني والفكري، وتعزيز مبدأ الثأر في التعامل مع المحتل، فكثير من العائلات تتقاتل بسبب أمتار أو قلع شجرة، ولكنها تصمت حينما يقتلع المحتل آلاف الأشجار ويصادر مساحات شاسعة.
11)      منبر الجمعة سلاح فعال لو أحسن استخدامه، ولهذا فإن المطلوب أن يركز خطيب الجمعة في خطبته دوما على مسألتين، وأن يتجنب ما استطاع الحديث عن مشكلات الدول الأخرى؛ الأولى هي السلبيات المحيطة بمنطقته ومكان إلقاء الخطبة؛ وطريقة علاجها، فالحديث عن حفرة في شارع أو تسرب التلاميذ من الدراسة في خطبة الجمعة أهم من الحديث عن سورية ومصر وإيران وتركيا وليبيا؛ والثانية هي عن الشأن الوطني العام والقضايا التي لا خلاف حولها أو عليها، مثل القدس وتهويدها، والأسرى، والتذكير الدائم أن الأرض هي لب الصراع.
12)      أما الفرد فعليه واجب العودة إلى الروحانيات ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهناك جدب روحي ربما ساهم في زيادة الانهماك في الحياة الاستهلاكية، وهذا الجدب لا يقتصر على غير المصلين، بل طال المصلي والصائم والحاج والمعتمر، ومتى سمت روح الإنسان يستطيع السير إلى الأمام والدفاع بإخلاص عن أرضه.
13)      اللغة العربية في خطر، وصراعنا جزء مهم منه على الهوية، وبات بعضنا يخجل من تحدث العربية، ويفخر بغيرها، ويتحدث المتحدث، وعادة يكون خطيب منبر إعلامي أو سياسي أو حتى منبر جمعة فينصب الفاعل، ويجزم المفعول به، فوجب تعزيز الانتماء بتقوية اللغة العربية، بتنظيم المسابقات، والدورات الخاصة بالأئمة، وحتى الناطقين والمتحدثين، فمن لا يتقن الحديث بلغته، وهي لغة القرآن الكريم، لن يستطيع الدفاع عن وطنه بطريقة مجدية، حتى لو امتلك الإخلاص والحماسة...وفي ذات السياق يجب وقف تدريس اللغة الإنجليزية في الصف الأول الأساسي، وعودة تدريسها في الصف الخامس أو حتى السابع.
14)      لا ضير من الانتماء لأي حزب أو تنظيم، والدعوة إلى إلغاء الأحزاب والتنظيمات والحركات، بدعوى الانتماء الوطني دعوة بلهاء وغير واقعية، وهي أيضا تناقض سنة الله في خلقه، ولكن المهم أن تجمع كل الأحزاب على أهداف جامعة، فعند العدو إجماع على أن «أورشليم» عاصمة أبدية لا تقبل القسمة، ويمكن محاكاة تجربتهم.
15)      على الفصائل جميعا أن تغير من أساليب الحشد والتنظير والتعبئة والتجنيد السابقة؛ وأن تعي جيدا أنها أمام أجيال جديدة وعقليات ترى كل ثقافات وأفكار العالم، وألا جدوى من أساليب الحجب أو التحذير من الاطلاع، وأن الفكر القوي لا يخاف الأفكار الأخرى.
16)      الدعوة إلى حل السلطة غير واقعية، لأن الناس بحاجة إلى إدارة شؤون حياتهم، ولأن البدائل سيئة جدا، ولكن المطلوب هو فصل الخدماتي عن السياسي تماما، ولا أقصد بذلك أن يشترط في مدير المدرسة مثلا أن يكون بلا انتماء سياسي؛ ولكن ألا يكون مؤهله الأهم هو نشاطه أو انتماؤه السياسي، فيما هناك من هو أكفأ منه من تنظيم آخر أو من المستقلين، وعليه على التنظيمات أن تتجه إلى قضية التحرير وان تزهد ولو تدريجيا بالسلطة، وأن تبحث عن مصادر تمويل جديدة، وهذا ليس صعبا.
17)      يجب التحلي بالشجاعة ونقد الذات، ولكن ألا يستخدم النقد الذاتي مادة للمناكفة، ولعل أجواء المصالحة تسهم في ذلك، ويبدأ نقد الذات بالمصارحة داخل الأسرة الواحدة، بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد، وبين المعلم وتلامذته...شخصيا أنا سررت حينما قالت لي ابنتي (صف خامس) أنها لا تحب المدرسة لأنني  حينما كنت صغيرا ويسألني سائل أكبر مني:تحب المدرسة أم البيت؟ كنت أجيب نفاقا:المدرسة...ولننظر إلى العدو وسياسة استخلاص العبر بعد كل عملية، وللعلم استخلاص العبر عندهم ليس فقط في الحروب والعمليات العسكرية الكبيرة، بل بعد عملية اعتقال روتينية، فكيف يمكننا استخلاص العبر ونحن غارقون في تضخيم الإنجازات، والتهرب من الأخطاء والخطايا؟وكيف سنتعلم النقد ونحن نشرب النفاق والرياء والكذب أطفالا؟
18)         وهي نـقطة حساسة أجلتها وجعلتها الأخيرة وربما هي الأهم؛ وهي أن فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر تقريبا محكومة بمنظومة اجتماعية-اقتصادية شبه ثابتة، قد تتغير الوجوه، لكن المنظومة لا تتغير، والمعادلة التي بات كثير من أبناء شعبنا يدركونها، أن ثمة طبقة تدفع  من دمها ومن القليل الذي تمتلكه من متاع الدنيا، ولكنها تبقى خارج دائرة التأثير الفعلي متوسط أو بعيد المدى، ولكن هناك طبقة صغيرة تتكيف مع كل عصر ومع أي سلطة قائمة، وقد تنتكس برهة، ثم لا تلبث أن تعود لتمسك بناصية الأمور، وهي طبقة لا يستعصي عليها وضع أو معادلة، بما في ذلك التراكيب الاجتماعية والسياسية التي تطورت عبر أكثر من قرن...فهذه الطبقة استفادت من السلطنة العثمانية أواخر عهدها، ثم سارعت إلى التحالف مع الإنجليز، وتعاملت مع الحكم المصري والأردني بذات العقلية، وتعلم أبناؤها تعليما جامعيا بحكم الثراء، في وقت كان حظ الناس من العلم شحيحا، وبالتالي هيمنت على حقول التعليم والصحة وغيرها ووضعت بصماتها فيها، ولم يختلف الحال كثيرا عند احتلال ما تبقى من فلسطين، فتعاطت مع الاحتلال، من منطلق نفعي مصلحي بحت، فهي تكره الاحتلال لو مسّ مصالحها الذاتية فقط، واستطاعت النجاة بمصالحها ونفوذها من كل عواصف السياسة المتقلبة...هي طبقة يهمها مصالحها الاقتصادية الضخمة، والتي من خلالها بمكنتها اختراق كل التنظيمات، والتأثير في كل الشرائح الاجتماعية والمهنية،وتجنيد الأتباع، وتزييف الوعي مهما تطور الإعلام وتبدل...ولكي نكون واقعيين فإن الصدام معها غير مجد، ويشتت الجهد، وهو معركة جانبية قد تطول دون أن يتأثر الاحتلال، وكثير ممن رفعوا شعار الوقوف في وجه أنانية هذه الطبقة وطالبوا بالتصدي لها قد فشلوا، بل بات بعضهم تحت جناحها، مدافعا عن مصالحها أكثر منها، وأيضا تركها تفعل ما تشاء أمر مضر  كما ثبت بالتجربة العملية التاريخية؛ والحل الواقعي هو محاولة تحييد الجزء الأكبر منها، ومحاولة إقناعها أن نفوذها ومصالحها مهددة من الاحتلال على المدى المنظور، ولو بدا لها غير ذلك، وهذا ليس صعبا، لأن الخير لا ينقطع من أي شريحة اجتماعية، ولأن ثمة جيل لا يتعاطى بذات عقلية وتفكير الأب والجد، ولو تم تحييد جزء من هذه الطبقة، وإقناع جزء آخر بالمشاركة الفعلية في عملية التحرير، فهذا مكسب كبير، يغني عن معركة جانبية تتفوق فيها هذه الطبقة بحكم الدربة والممارسة الطويلة، والحرص الذي بات متأصلا فيها على المصلحة والنفوذ.
هذه رؤيتي لترميم الثقافة الوطنية بعد تمحيص وتعمق في الواقع، بعيدا عن الانجرار وراء العاطفة، أو إماتة العاطفة استسلاما للواقع، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وإذا بدا أنني أطرح أمورا غير قابلة للتطبيق، فلنجرب ولن نخسر شيئا، لا سيما أننا جربنا ما هو أصعب وأكثر ضررا!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الإثنين  13 رجب 1435هـ ،12/5/2014م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة القُطرية الحديثة تمنع إنقاذ الأقصى!

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...