عن السودان أتحدث

بقلم:سري سمّور

خطباء مساجد لدينا في زمن ماض أشادوا بالنظام السوداني الذي أقامته جبهة الإنقاذ والذي هو انقلاب عسكري، وبرئيسه عمر البشير، ومجلة إسلامية فلسطينية أجرت معه مقابلة،وقالت بأنه كان صائما لأن من عادته صيام الإثنين والخميس، بل شطح بعضهم وتحدث عن (كرامة) له بأنه حين زار إحدى المناطق القبلية حطت أسراب طيور حوله...إلخ...وطبعا حديث مبطن عن مؤامرة إيرانية لنشر التشيع هناك...واعتبار السودان قلعة سنية منافسة لإيران!
والحقيقة أن عمر البشير حقق إنجازات للسودان لا يستهان بها،ولكنه لم يكن مثل عبد الرحمن سوار الذهب-حفظه الله-كي ينسحب هو وكافة الجنرالات من الحكم والسياسية لبناء دولة عصرية، وهذا كان ممكنا نظرا لثقافة الشعب السوداني، وتجربته الطويلة، وثروات البلد الوافرة.
ومن فرط الإعجاب بالتجربة السودانية نسجت قصة جرى تداولها على نطاق كبير،وبعض من سمعتها على لسانه استشهد عليه رحمة الله؛ ولا أتذكر كافة تفصيلات القصة الهوليودية كاملة ولكن عموما مفادها أن البشير ومجموعته قد خدعوا الأمريكان الذين كانوا يخططون لانقلاب عبر سفارتهم في الخرطوم، فأوهمهم البشير ومن معه أنهم معهم، وخدعوهم في موعد تنفيذ الانقلاب، فأسقط في يد الأمريكان!
ولن أدعي أنني كنت شاذا عن الإعجاب بالتجربة، ولم أكن محبا ولا معجبا بالتجربة السودانية وقتها، بل كنت مثلهم بنسبة كبيرة، من منطلق أيديولوجي من ناحية، ومن ناحية  أخرى من باب التعاطف الطبيعي مع أي دولة يستهدفها الأمريكان ويتهمونها بدعم الإرهاب، ومثلهم الإعلام الإسرائيلي الذي كان يبث تقارير تظهر عداوة للنظام السوداني، ولأن حسني مبارك الغني عن التعريف ناصب جاره السوداني العداء، تارة بسبب موضوع حلايب، وأخرى باتهام السودان بالمسئولية المباشرة عن محاولة اغتياله في أديس أبابا(1995)...كما ارتحت لاحتضان السودان لاجتماعات المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، الذي تمكن في سابقة ربما من جمع التيار القومي العربي مع التيار الإسلامي والخروج بأفكار مشتركة.
وظهر د.حسن الترابي كحليف للبشير، بل إن حسني مبارك قال بأن الحاكم الفعلي للسودان ليس البشير بل الترابي، وبالنسبة لي، كنت أرى ضرورة التحالف مع إيران، وبهذا كنت أغرد خارج السرب، وكانت الصحف-غير الإسلامية-تنشر تقارير وأخبار عن دعم إيراني عسكري للخرطوم هو ما ساعد على تحقيق إنجازات واضحة في جبهة الجنوب.
وكان الشيوخ هنا ينفون بحدة صحة هذه التقارير وكالعادة العبارات والكلاشيهات الجاهزة عن الشيعة ورفض حكومة السودان لعروض إيرانية بالدعم مقابل نشر التشيع في البلاد...وزيادة الكلام المليء بالإعجاب بالسودان وكأنها دمشق في زمن عمر بن العزيز.
تسليم السودان لأحد الشخصيات التي لطالما أثارت إعجابي شخصيا-في صباي وبداية شبابي- وهو (كارلوس) أثار امتعاضي وحيرتي، والتسليم تم بالتعاون مع المخابرات الفرنسية صيف سنة 994 ...وبما أن الثقافة التبريرية هي مرض شيوخنا المستحكم المتأصل؛ فقد برروا الأمر بأن كارلوس عميل ووجوده في السودان كان يهدف إلى إيجاد مبرر لضرب السودان بدعوى وجود إرهابي دولي فوق أراضيه، فسارعت السودان لاتخاذ إجراء يقيها من المؤامرة الدولية...لم يقنعني هذا الكلام طبعا...ولاحقا عرفنا قصة الشيخ أسامة بن لادن الذي ما بخل على السودان حكومة وشعبا بماله ، فسحبوا منه 150 مليون دولار ولما قرروا طرده طلب استرداد ماله فعرضوا عليه صمغا كي يبيعه...وصارت حسابات الدولة مختلفة عن حسابات التطلعات الثورية، والوقائع مختلفة عن الأحلام.
حزب التحرير كعادته هاجم وانتقد حكومة السودان، ونقض مشروع دستورها، وتقديمه الدستور المعتاد المستمد من القرآن والسنة، وفق فكر الحزب، وهذا ديدن الحزب مع إيران قبلها، ومع أي دستور لأي دولة تتبنى نهجا إسلاميا معلنا...لكن وللأمانة والدقة فإن حزب التحرير قد سبق كل المحللين بتوقع ما أسماه (طلاقا) بين البشير والترابي، وجاء هذا التوقع في مجلتهم(الوعي)  إبان دفء العلاقة بين الإثنين.
العلاقة الطيبة –سابقا- بين مفكر كبير بحجمه المعرفي والحركي وقوة تأثيره هو د.حسن الترابي وبين الجنرال عمر البشير، ليست سابقة في التاريخ العربي والإسلامي، والعالمي كذلك، وقد تعتبر ظاهرة صحية، أن يجتمع الحاكم مع الحكيم، والسيف مع القلم، ولكن طبيعة العسكرتاريا العربية الحديثة تقوم على الاستحواذ والإقصاء، والتحالفات المؤقتة لحين التمكن، ولا تعتبر العلاقة بغيرها استراتيجية، بل تكتيكا مؤقتا...ولكن هذا لا يعفي الترابي من المسئولية عما آلت إليه الأمور.
د.حسن الترابي دوما اختط لنفسه خط عدم التقيد بالمدرسة الإخوانية التقليدية، عبر طرح مواقف وأفكار تستفز القائمين على هذه المدرسة، وآمن بخصوصية الإقليم مبكرا، وهو بهذه(الخصوصية) محق، ولكنه كان يبدي آراء تتعلق بأقاليم ودول أخرى، كالجزائر مثلا، معتبرا رأيه صوابا فيها، فهو يؤمن بالخصوصية فيما يخص السودان، ويتجاوزها في نفس الوقت مع غيره.
اصطدم الترابي بالبشير، ولكن الترابي ذهب بعيدا حينما قام بتوقيع مذكرة تفاهم مع الحركة الشعبية بزعامة جون جارانج، مما دفع البشير لاعتقاله، ولكن الترابي برر الأمر، بأن شباب حركته هم الذين يقاتلون في الجنوب، وأنه يسير في خطين متوازيين في مسألة الجنوب، لكن اعتقال الترابي وقبله حل البرلمان أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن السودان ليس الدولة النموذجية التي طبل لها المشايخ وزمروا، بل هي استنساخ بطريقة أو بأخرى للنظم العسكرية العربية، مع فارق أن البشير يرفع شعار الإسلام، وتلك النظم ترفع شعارات القومية والتقدمية.
أمريكا وضعت السودان على قائمة الدول الراعية لما يسمى الإرهاب، ولم يشفع للخرطوم تسليمها لكارلوس، وهذا ما توقعه محمد حسين فضل الله-رحمه الله- حينما تم التسليم، وأمر  كلينتون بقصف مصنع للدواء في السودان، وصارت لقاءات جارانج وزياراته للكيان العبري علنية، وبات واضحا بأنه لن يسمح للشمال بحسم المعركة، رغم الانشقاق في الحركة الشعبية، والتقدم الملحوظ للجيش السوداني، وأن الجنوب ليس سوى مصدر صداع واستنزاف، وأن من الأفضل التخلص من هذا الصداع، ومع الخلاف بل النفور بين البشير والترابي إلا أن الترابي أيد انفصال الجنوب.
متأخرين أفاق مشايخنا ومريديهم من الحلم السوداني الذهبي، وأدركوا بأن إيران دولة عصرية قوية، لا يمكن أن تكون السودان ندا لها، أو بديلا عنها، وغن بقوا على موقفهم المعادي لإيران في التنظير.
 وظهرت مطامع الأمريكان في ثروات السودان بنوايا فصل الغرب(دارفور) وابتزاز البشير بالمحكمة المسيسة، ولكن البشير أدار الملف بحنكة بعقود تجارية وامتيازات منحها للصين، وإجمالا تحسنت الأوضاع الاقتصادية في البلاد نظرا لأن الاستنزاف في الجنوب قد انتهى، ولكن دخل الفرد السوداني ظل شحيحا مقارنة مع ما تملكه البلاد من ثروات هائلة،وإجمالا فإن تأثر النيل السوداني من سد النهضة الأثيوبي يظل محدودا بعكس مصر.
الفريق أول عمر البشير  متزوج من اثنتين، ولم يرزق بأولاد، أي لا توريث، ويحكم السودان منذ 1989م ولم يجر انتخابات إلا مرتين الأولى في 2010 والثانية في 27/4/2015م وحصل على 94% من الأصوات، وطبعا معروف ما يعنيه طول العهد بالحكم والاستئثار من سيئات تغلب الحسنات، حيث هناك تراجع في ملف الحريات، وتصحر في الممارسة السياسية،وفساد إداري ومالي متزايد...والدرس الكبير أن الانقلابات العسكرية شرها غالب على خيرها،ولو تلبست لباس الإسلام،وأنه إذا كان الانقلاب العسكري شر لا بد منه،فليكن على طريقة سوار الذهب...وأنه لا يجوز التحمس والاندفاع في تأييد أي تجربة قبل مضي خمس سنوات كحد أدنى عليها،إن لم يكن عقدا كاملا، حتى تتضح الصورة كاملة.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الثلاثاء 9 رجب 1436هـ ،28/4/2015م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة القُطرية الحديثة تمنع إنقاذ الأقصى!

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...