"الاجتهاد الانتقائي".. متناقض ويُنذر بنقض عروة الفقه

"الاجتهاد الانتقائي".. متناقض ويُنذر بنقض عروة الفقه




(الاجتهاد الانتقائي) متناقض ويُنذر بنقض عروة الفقه


بقلم:سري سمّور

بعيدا عن  السياسية

قلت في المقال السابق أنه ينبغي الفصل التام بين من يكرهون القرضاوي لمواقفه السياسية وبين من لهم ملاحظات وجيهة على منهجه الفقهي، وفق أصول علمية رصينة؛ ولكن مجتمعاتنا لم تتوصل بعد إلى صيغة تفصل بين نشاط عالم الشريعة السياسي وبين بضاعته من العلم، وتراهما في حالة تداخل وتمازج تام.
وحاليا يتم عقاب القرضاوي على مواقفه بالانتقام من ابنته (علا) المعتقلة في سجن القناطر في مصر منذ سنتين، وقد كشف المحامي الحقوقي المصري خالد علي عن وضعها الصحي والنفسي جرّاء الحبس الانفرداي وتعمد إذلالها بتهم ملفقة وهزلية وفق وصفه...ويبدو أن الانتقام من القرضاوي بسبب موقفه من ثورة 25 يناير وخطبته الشهيرة في ميدان التحرير بعد تنحي مبارك، ورغبة الثورة المضادة بمعاقبة كل من لهم علاقة بتلك الثورة، حتى من أيدوا حركة 30 يونيو فكيف بالقرضاوي الرافض لها ولما تلاها؟!
وهذا أسلوب ذميم ومخالف لكل الشرائع السماوية ومدونات حقوق الإنسان، بحيث ينكل بأفراد من عائلة أي إنسان له موقف مناهض لأي نظام سياسي.
ولكن بعيدا عن السياسة وضرائبها الباهظة في هذا الزمن، وكي لا تختلط الأمور فإن هذه المقالة مخصصة لمناقشة منهج القرضاوي الفقهي في الاستدلال والفتوى وغير ذلك.

 

شيء من أوجه تناقض منهج القرضاوي   

 منهج القرضاوي غير منضبط ومتناقض وهو (منهج اللامنهج) ويسميه (الاجتهاد الانتقائي) ويصفه مريدوه بأنه رائد الوسطية، وتم الحكم منه ومن هؤلاء المريدين على أن ما يفتي به هو منهج التيسير واجب الاتباع، ولكي لا يكون الكلام أشبه بالنسخ واللصق ولأن كثيرا من الناس لا وقت لديهم لمراجعة الكتب والمراجع، ولأن أغلب الناس ليسوا من المتعمقين ولا المتبحرين في هذه الأمور، فإننا يمكن أن نلخص ملاحظات مصطفى الطرابلسي على منهج القرضاوي الفقهي في نقاط ونختار أبرزها بشيء من التصرف الذي يقتضيه الحال والمقال:-
أولا: تناقض المنهج عند القرضاوي في أكثر من موضع بحيث يضع ويقرر قاعدة ثم تراه ينقضها في موضع آخر، فلا تستطيع الإمساك بمنهجه، مما يدل على عدم انضباطه؛ فمثلا قرر القرضاوي جواز الفتوى بأقوال الصحابة والتابعين، وقرر أننا ملزمون باتباع سنة الخلفاء الراشدين –رضوان الله عليهم-  ثم ناقض ما قرره بقوله بأن(كلامهم ليس بحجة في دين الله؛ لأنه يتوارد عليه الخطأ والصواب) فهو مثلا يراه حجة عند مناقشته  أخذ عمر الجزية من التغلبيين وهم كانوا من نصارى العرب..ولكنه في مسألة دية المرأة يقول(الراجح أن قول الصحابي ليس بحجة في دين الله)!
ثانيا:تناقض القرضاوي في مسألة دليل التحريم القطعي والظني؛ فقد قرر في كتابين له(الحلال والحرام في الإسلام) و(فتاوى معاصرة) حرمة أشياء لم تثبت حرمتها إلا بدليل ظني وفي خبر آحاد؛ كالوشم والنمص ووصل الشعر، والتدخين وغيرها؛ فهو أفتى بحرمتها مع أن الدليل بنصوص ظنية لا قطعية، وهو الذي قرر أن التحريم فقط بدليل قطعي!
ثالثا:تناقضه في تقرير القاعدة الفقهية المشهورة(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فمثلا هو يرى أن الآية الكريمة في سورة التوبة(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تخص المتخلفين عن غزوة تبوك ثم يتراجع عن هذا في فتاوى معاصرة فيقول:ولا يؤخذ عموم اللفظ قاعدة مسلمة وأن هذا (غير مجمع عليه) وذلك في معرض كلامه عن الحديث الذي رواه البخاري(لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .
رابعا:تناقضه الكبير في مسألة الإجماع فهو يرى أن الإجماع حجة شرعية حتى ولو في أمور ليست معروفة من الدين بالضرورة مثل نبش القبور للمصلحة، كما حدث زمن معاوية في المدينة، وقد سكت الصحابة عن الأمر(الإجماع السكوتي) وكذلك في حديثه عن مسألة سفر المرأة بلا محرم إذا تحقق الأمن ووجد الثقات، ويقرر القرضاوي أن الإجماع إذا انعقد فلا ينقضه خلاف لاحق ولا ينقض الإجماع شذوذ من شذ قبله أو بعده، وأنه لا عبرة بشذوذ اثنين أو ثلاثة في أعصر مختلفة مثل من قال بنسخ زكاة الفطر بزكاة المال؛ ولا ينسخ الإجماع إلا إجماع مثله لأن الأضعف لا يلغي الأقوى.
ولكنه خرق كل هذه القواعد التي قررها وحددها في فتاويه؛ فهو يستدل بكلام الشوكاني الناسف للإجماع، وهو الذي قرر قبلها حجية الإجماع...تناقض واضح.
وظهر ذلك في مسائل منها؛ دية المرأة فقد أخذ برأي ابن عُلية والأصم بالتساوي مع أنه هو من قرر أن الإجماع لا يخرق من اثنين أو ثلاثة ولا تلغى حجيته، ناهيك عن كونهما من المعتزلة، بل هو رد على الإثنين المذكورين في مسألة نسخ زكاة الفطر، والآن يأخذ بقولهما!
وكذلك في مسألة حكم المرتد التي رأى القرضاوي أنها مسألة من شئون السياسة الشرعية، وأن الإجماع على عقوبة المرتد لا نوع العقوبة...وفي مسألة التفريق بين الزوجين إذا أسلمت الزوجة ورفض زوجها الدخول في الإسلام فقد رأى القرضاوي أن تظل مع زوجها مع كامل حقوق الزوجية إذا شاءت؛ وهو بهذا يخرق الإجماع الذي قرر سابقا حجيته...وفي موضوع قتال الطلب يسخر فيما بين السطور من سيد قطب-رحمه الله– في هذا المسألة ويرى أن قطبا أخذ بالتشدد، علما بأن قطب نقل الرأي ولم ينشئ شيئا من الأحكام، وكأنه من خلال انتقاد قطب ينتقد كل العلماء الذين أجمعوا على هذه المسألة.
 وفي مسألة فناء النار فإن القرضاوي خالف الإجماع القطعي المنعقد؛ فتارة يتوقف عند هذه المسألة وتارة يرى بفنائها، ولا يجزم بالبقاء.
ويرى الطرابلسي أن القرضاوي يجعل كل مسألة اختلف فيها العلماء محل اجتهاد وليست من القطعيات؛ ووفق هذا المنهج يمكن لأي (مجتهد مستقبلي) أن يأتي لأي مسألة قال فيها عالم ما قولا شاذا بأنها مسألة خلافية فيفتي بعكس الإجماع؛ والقرضاوي نفسه يرى حرمة ربا البنوك، بينما سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق أفتى بأنها حلال ولم يتراجع رغم ردود العلماء عليه، والسبب هو قول فلان من العلماء مما ينقل المسألة من القطعي إلى الظني محل الاجتهاد!
والقرضاوي يستشهد بما قاله ابن القيم بحجية أقوال الصحابة وآثارهم للاستئناس في مكان، ثم يأتيك بأقوال الشوكاني بعدم حجية هذه الآثار للاستئناس في مكان آخر...فما هو منهج القرضاوي المتبع المعتمد؟!
من الواضح أن القرضاوي يعتمد في اجتهاده الانتقائي على ما يراه ملائما للعصر وأرفق بالناس، وليس وفق أدلة الترجيح بين الأقوال التي بينها العلماء.
فهو يرى أن ما هو (أليق) هو قاعدة الترجيح الأهم وأداته المثلى، فهو قد عزم على ما يسميه بالتيسير ثم يطرح الآراء والاستدلالات ويأخذ ما يوافق مبدأ التيسير.
وإن هذه من الطامات التي أصابت الأمة في عصور الاستعمار وما تلاه من الاستبداد وتغول الدولة الحديثة، بحيث تدور معها أصول الفقه حيث دارت، وهذا أمر لا يستقيم، لأنه يفتح بابا للشرور، ومنها ما صرنا نسمعه من بعض المحسوبين على مؤسسات أو رجال العلوم الشرعية ممن تجاوزوا الحد ودخلوا في لجة الشطط فيطرحون بلا ورع فتاوى شاذة لعامة الناس؛ صحيح بأن القرضاوي لم يقل بالمحرمات الثابتة؛ فلا هو أفتى بجواز شرب الخمر، ولا أحل الزنا، ولا قال بعدم إفطار المدخن في نهار رمضان...ولكن فتح باب الاجتهاد لما لا يصح فيه اجتهاد، بدعوى الانتقائية والتيسير، وعدم انضباط المنهج وفق قواعد صارمة متماسكة، هو ما شجع ضعاف النفوس ممن رقّ الدين في قلوبهم على التجرؤ العلني على ذلك، وكأنه لا يكفينا فساد الدنيا، فيأتينا من يفسد الدين باسم الاجتهاد في أمور الدين...ولا شك بأن نية القرضاوي كانت حسنة ورغبة منه في رفع الحرج عن المسلمين في زمن التغريب الشامل، ولكنه تناقض في منهجه، وخرق الإجماع وكافة القواعد التي قررها هو بنفسه للاستدلال...ولي وقفات أخرى في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...

إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة" تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن