الفضائيات والإنترنت.. تدخل وتؤثر في المجتمع الفلسطيني

 

مع تطبيق بعض بنود أوسلو وتأسيس السلطة وتسلمها لمناطق فلسطينية، شهد العالم ثورة وطفرة ونقلة نوعية في وسائل الاتصالات والمعلومات أثرت على كل سكان الكوكب بدرجات متفاوتة، وبالتأكيد تأثر بها المجتمع الفلسطيني، خاصة القنوات الفضائية والإنترنت.

ونظرا لطبيعة الظرف والتحول السياسي الذي كان وقتها فإن التأثر ليس بسيطا، فدخول الفضائيات والإنترنت كسر هيمنة المتابعة التي حازها الإعلام الإسرائيلي في المجتمع الفلسطيني سنوات طويلة.

فقد اعتاد الفلسطينيون على متابعة الإعلام الإسرائيلي خاصة المرئي والمسموع زمنا طويلا، ومنهم من كان يتابع النسخة العبرية ممن يتقن اللغة  العبرية.

ومتابعة الإذاعة الإسرائيلية باللغة العربية كانت سائدة، وقاسم مشترك بين معظم الفلسطينيين، خاصة في وسائل النقل العمومي، بل بعض السائقين، كانوا يوجهون إبرة البث نحو إذاعة صوت الجنوب الناطقة باسم جيش أنطون لحد، ولو بهدف سماع الأغاني!

وقد منعت سلطات الاحتلال إنشاء أي نوع من الإذاعات إبان فترة ما قبل أوسلو، وبعد تطبيق بعض بنود الاتفاق وتأسيس السلطة، لوحظ نشاط مكثف للإعلام الإسرائيلي وحرصا على التدخل الإعلامي في الشأن الداخلي الفلسطيني، خاصة عند وجود أي مشكلة داخلية ولو كانت صغيرة.

ومع بداية تلك الفترة انطلق بث إذاعات محلية خاصة، اقتصر بثها في البداية على الأغاني المنوعة التي يطلبها متصلون، وكانت تغطية كل إذاعة تقتصر على حدود المدينة التي تبث منها، وبعد فترة وجيزة تم افتتاح قنوات تلفزة محلية، كانت تنقل أخبارا محلية شبه رسمية، مع متابعة للشؤون المحلية لكل منطقة، وشكاوى المواطنين ومطالبهم، مع بث أفلام ومسلسلات عربية مختلفة.

ولكن من أبرز التحولات هو أن التلفزيونات الخاصة وهي أيضا محلية، بمعنى أن في رام  الله تلفزيون/ات محلية ومثلها في نابلس ومثلها في جنين يلتقطها المواطن بالهوائي العادي (الأنتين) هو أنها صارت تنقل عن محطات عربية مختلفة، وقد تنوعت المحطات والمنقول عنها، من مواد ترفيهية ومسلسلات، إلى شيء آخر، وهو البرامج ذات الطابع السياسي، فمع افتتاح قناة الجزيرة في قطر بدأت بعض محطات التلفزة المحلية بالنقل عنها، مباشرة، أو بتسجيل البرامج وبثها لاحقا، مثل برنامج (الاتجاه المعاكس) و(أكثر من رأي) و(شاهد على العصر) و(بلا حدود)، ونعلم أن الجزيرة حققت نقلة إعلامية عربية غير مسبوقة، وساهمت في إعادة صياغة التفكير وصنع الرأي، وتأثرت معظم الشعوب العربية، بل جميعها بها، ولكن الحالة الفلسطينية مختلفة، فالفلسطينيون اعتادوا بحكم متابعة الإعلام الإسرائيلي على رؤية المشاجرات في الكنيست وسماع الإسرائيليين ينتقدون حكومتهم ورموزها علنا، وكانوا يتابعون الإعلام العربي، فيسخرون من محتواه الإخباري(صاحب الرؤية الوحيدة والرأي الواحد فقط)، وهذا زاد من تعلقهم حدّ الإعجاب الضمني بإعلام العدو، مع علمهم أن إعلام العدو موجه من أجهزة الأمن الصهيونية التي اعتادت وضع السمّ في الدسم، فيما يتعلق بالأخبار والتقارير التي تخص الشعب الفلسطيني.

الآن والفلسطيني يدخل مرحلة سياسية جديدة لم تتبلور تماما، ولكنها متأثرة بالحالة العربية لأسباب مختلفة، جاءت ظاهرة سماع الرأي الآخر علنا من شاشة تلفزة عربية.

بث التلفزيونات المحلية موادا منقولة عن قنوات عربية، كان إسعافا إعلاميا لمن لم  تسمح لهم ظروفهم  المادية بشراء صحون لاقطة وملحقها (الستلايت والريسيفر)، فقد كان ثمنها ما زال باهظا، وبداية اقتصر اقتناؤها على بيوت الراغبين ممن كان دخلهم فوق المتوسط، وأنا شخصيا أول مرة أقتني هذه الأدوات في بيتي كان في صيف عام 2001 وكانت التكلفة 1800 شيكل احتاجت إلى تقسيط ومشاركة أسرية.

صحيح أن قنوات التلفزة المحلية كانت أحيانا تتجنب عرض بعض الحلقات ولكن كانت تنقل معظمها، أعني حلقات النقاش والحوار بين فكرتين أو رأيين مختلفين، وبالطبع كان للشأن الفلسطيني حضوره في تلك النقاشات والمساجلات ومن ثم تفاعل الشارع معها.

بداية لم يتقبل كل الشارع الفلسطيني فكرة النقاش والمناكفات عبر الشاشات وتوجس بعض الناس ريبة من قناة الجزيرة، ولكن ما لبثت قنوات التلفزة العربية إلا وصارت تقلد الجزيرة بعرض وجهة النظر المعارضة، ولو بتحفظ وضوابط، وانقسمت آراء الناس حول هذه الظاهرة، ولكنها أصبحت أمرا واقعا لا يمكن تغييره بنقد الظاهرة والتشكيك بأهداف القائمين عليها.

إنها حالة إعلامية جديدة في ظرف سياسي له خصوصيته في الحالة الفلسطينية، في ظل حالة استقطاب متواصلة، صارت الفضائيات وخاصة الجزيرة من أدواتها.

ولكن هل معنى هذا أن الناس تركوا متابعتهم للإعلام الإسرائيلي؟ لا، فقد ظل الإعلام الإسرائيلي له (جمهور) فلسطيني ولكن انكسر احتكار وشبه أحادية السماع والمشاهدة التي حازها في الزمن السابق، ولم تعد نشرة الأخبار باللغة العربية المسموعة والمرئية من هيئة البث الإسرائيلية (وجبة) يومية فلسطينيا كما كانت.

ولكن تضايق الفلسطينيون من ظاهرة استضافة صهاينة في الجزيرة، وإظهار خريطة فلسطين الانتدابية تحتوي على كلمة (إسرائيل) ولهذا وجه أحد الكتبة الفلسطينيين رسالة مفتوحة  عبر صحيفة محلية إلى مدير القناة في بداياتها، أشاد فيها كثيرا بدورها ومهنيتها وطواقمها المختلفة، وناشده بخصوص الخريطة. طبعا الجزيرة لم تستجب فلديها سياسة خاصة لا تتوافق بالضرورة مع رأي الآخرين بها.

ولكن شعر الفلسطيني بسماع لغة جديدة عبر الشاشات، فبدل كلمة (مخرب منتحر) حلت كلمة (استشهادي) ورأى عبر الجزيرة من يمجد الاستشهاديين دينيا وسياسيا وشخصيا، ويحتفي بمن يقف خلفهم.

أما الإنترنت فقد بدأ انتشارا بطيئا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وبداية كان التصفح في مقاهي خاصة، وأجرة كل ساعة كانت مرتفعة نسبيا في المراحل الأولى، واستخدام الإنترنت كان نخبويا ويفترض بمن  يرغب فيه معرفة باستخدام جهاز الكمبيوتر، وعندما بدأت بعض البيوت تتصل بشبكة الإنترنت كانت التقنية المتاحة أول مرة هي (Dial Up) أي أن خط الهاتف سيكون مشغولا عند استخدام الإنترنت، ولهذا كانت ساعات المتابعة قليلة وليلية غالبا في البيوت.

وأنا من أوائل الذين استخدموا الإنترنت في الضفة الغربية، بل كنت من قلة من طلبة قسم الحاسوب أصحاب العلاقة المباشرة المفترضة بالأداة الجديدة، ممن ولج عالم الإنترنت متحملا نفقات كبيرة، وقد لاحظت الأمور التالية آنذاك:

كان المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية محدودا وقليلا وتحديثه بطيء جدا، ولكن بعضه جذب انتباه الفلسطينيين، خاصة ما يتعلق بأحوالهم الداخلية، مع عدم خلوه من المبالغات والمعلومات غير الموثقة التي تتعمد الإثارة .

كثير من رواد مقاهي الإنترنت (معظمهم شباب) كانوا يرغبون في التسلية أو التحدث مع أقارب وأصدقاء عبر برامج الدردشة الموجودة في ذلك الوقت، أو التعرف على أناس من شعوب وثقافات أخرى، وهذا فتح أمام الشباب نافذة اطلاع جديدة لا تخلو من مخاطر ولكن صار لديهم وسيلة جديدة للاتصال مع العالم، تجاوزت الوسائل الأخرى الضيقة.

لم يكن للفلسطينيين رغبة في المشاركة في المنتديات الحوارية التي تنطلق من بعض الدول العربية، ومن مشاركتي في بعضها شعرت بغربة، خاصة مع غياب قضية فلسطين عن مواضيع الحوار التي غالبها يتناول مسألة السنة والشيعة وبعض المسلسلات وأمور اجتماعية لا تعنينا، وقد تأخرت المنتديات الفلسطينية عن العربية زمنا ليس قصيرا، علما بأنه كان لها تأثير كبير. وزهد الناس هنا فيها، مرده حبهم للسرعة في تناقل المعلومات وكونهم عموما كانوا يقولون ما يريدون دون حاجة للتخفي وراء أسماء مستعارة، ومللهم من قراءة نصوص طويلة نسبيا.

فتحت الشبكة العنكبوتية المجال للتواصل السريع نسبيا مع العالم العربي؛ فباستثناء مصر لم يكن هناك رسائل مباشرة إلى أية دولة عربية، وإذا أردت مراسلة قريب في دولة عربية أخرى كان عليك التوجه إلى البريد وستضع عنوانا خاصا وسيطا حيث تنقل الرسالة إلى لندن أو قبرص قبل وصولها إلى البلد العربي وبالعكس، ولهذا تكلفته ويأخذ وقتا طويلا، ولكن البريد الإلكتروني وبرمجيات الدردشة قربت الزمان والمكان، وينسحب هذا على الاتصال مع الدول العربية هاتفيا، فقد كان مكلفا جدا. الإنترنت خلقت واقعا جديدا وصار تناقل المعلومات (وحتى الإشاعات) أسرع وتكلفته ليست باهظة.

 ظل للإعلام الورقي سلطانه على الناس، وظلت جريدة (القدس) هي الأكثر تأثيرا وشعبية، ولم تتمكن الصحف الورقية الأخرى قبل أوسلو (النهار مثلا) أو بعده (الأيام والحياة الجديدة) من منافستها، ولم يخطر ببال الناس -أو لنقل معظمهم- أن الصحافة الورقية ستنحسر وصولا إلى التلاشي تقريبا.

 

الفضائيات والإنترنت دخلت المجتمع الفلسطيني في وقت لم يكن عندهم دولة وقضايا سياسية شائكة لها طابع استقطابي تفرض حضورها عليه، لذا لم يعش الفلسطينيون مثل شعوب العرب الأخرى حالة إعلامية عنوانها ومحتواها رؤية واحدة ورأي وحيد ووجهة نظر لا تناقش، وعليه فإن الفضائيات والإنترنت ساهمت كثيرا في بلورة تصور المجتمع الفلسطيني لأوضاعه الداخلية، ونظرته إلى العالم والمحيط العربي.

هذا والفلسطينيون أكثر شعوب العرب إقبالا على التعليم، وموضوع التعليم سيكون موضوع المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

،،،،

تم نشره في يوم السبت 22 ربيع الآخر 1443هـ ، 27/11/2021م

https://alqudscenter.info/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%B1%D9%86%D8%AA-%D8%AA%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D9%88%D8%AA%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدولة القُطرية الحديثة تمنع إنقاذ الأقصى!

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...