عودة إسرائيل إلى الوصاية المكشوفة

  

بُعيد عملية طوفان الأقصى وبدء الحرب المفتوحة الدموية التي تأخذ طابع الإبادة الجماعية على قطاع غزة، شهدت المنطقة عموما، والكيان العبري خصوصا ظاهرة ما أطلق عليه بعض المراقبين(الحجيج الدبلوماسي) تزامنا مع حشود عسكرية أمريكية تمثلت باستدعاء حاملتي الطائرات(فورد و أيزنهاور) إضافة إلى قطع وسفن حربية أخرى، واستدعاء قوات الدلتا ووضعها بحالة جاهزية في شرق البحر المتوسط، وتزويد إسرائيل بآلاف الأطنان من الذخائر والعتاد، وكأن الترسانة الإسرائيلية فارغة وتعاني الشح،  إضافة إلى الحديث عن طيران أمريكي استطلاعي للكشف عن مكان (الرهائن) في قطاع غزة.

التصريحات والزيارات غير المسبوقة  

وزار الرئيس الأمريكي(جو بايدن) إسرائيل في 18-10-2023 لأول مرة منذ توليه منصب الرئاسة والتقى بقيادتها السياسية والعسكرية، وسبقته وتلته زيارات متعددة قام ويقوم بها وزير الخارجية (أنتوني بلينكين) ووزير الدفاع (لويد أوستن)، ولا ننسى زيارة رئيس وزراء بريطانيا (سوناك) والرئيس الفرنسي(ماكرون).

وبلينكين الذي يفترض أنه يمثل الدبلوماسية الأمريكية، ووجهها الرسمي، يتحدث وكأنه وزير خارجية إسرائيل، وأكد على أنه يتحدث بصفته يهوديا لا وزير خارجية الولايات المتحدة.

كل هؤلاء الذين يقودون الدول العظمى التي لها مقاعد دائمة في مجلس الأمن، جاءوا إلى الكيان فاتحين خزائن المال والسلاح في بلادهم(كرمال عيون إسرائيل) بحجة كرروها(حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، في مشهد سوريالي تماما؛ فإسرائيل دولة لطالما تفاخرت وصورها الغرب بأنها الدولة القوية عسكريا المتقدمة تقنيا...المتفوقة في كل المجالات في المنطقة، وهي الآن تواجه قطاعا ساحليا محاصرا مساحته 365 كيلومتر مربع مكتظ بالسكان وأهله فقراء عموما، والحركة أو المنظمة المستهدفة(حماس) ليست دولة ولا تمتلك طائرات ولا دبابات ولا صواريخ بعيدة المدى، كي يتم تشكيل هذا التحالف الضخم ضدها.

دعكم من حديث المسؤولين الأمريكيين عن تبرير وجودهم بردع أو منع (بعض الأطراف) من توسيع رقعة الصراع وفتح جبهات أخرى للحرب، أو أن السبب هو وجود من يحمل الجنسية الأمريكية بين المحتجزين.

لأنه بعيدا عن اللغة الناعمة والدبلوماسية وتلطيف الألفاظ والتعبيرات لإيصال الفكرة؛ فإن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، جاء بساسته وجيوشه للتأكيد على أن إسرائيل بمثابة المحمية الغربية، غير المسموح بالمساس بها، والحفاظ عليها مقدم على كل ما سواه، بمشهد يطفح بالعنجهية والتحدي والصلافة ليس للفلسطينيين في غزة فقط، بل لجميع العرب والمسلمين، والذين-للأسف- قابلوا هذا التوحش والتهديد بلوم خجول أو صمت أو تعاون وتواطؤ.

عود على بدء

هذه التحركات الغربية العسكرية والسياسية، أكدت ما كان معروفا ومفهوما وبدهيا، وهو أن إسرائيل قاعدة عسكرية غربية في المنطقة العربية، ورأس حربة الرأسمالية هنا، وقد توارت هذه الحقيقة، أو غفل عنها بعضهم، بعد أن حرصت إسرائيل على أن تظهر نفسها ندّا للغرب، خاصة بعلاقاتها وتحالفاتها، والاتفاقيات التي تعقدها، وبعض التصريحات التي تنفلت من ألسنة بعض مسؤوليها، عن علاقتهم بالولايات المتحدة.

إضافة إلى نفوذ اللوبيات(مجموعات الضغط) التي ساعدت إسرائيل على اختراقات لا مثيل لها داخل الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، بحيث انقلبت الصورة بمرور الزمن وتزايد النفوذ الإسرائيلي وداعميه هناك، بحيث صار التابع متبوعا، والمتبوع تابعا..إلى أن جاءت هذه الحرب!

ذلك أن إسرائيل تعيش مجموعة من العُقد في تركيبتها، ومنها عقدة (الاستقلال) فهي تطلق اسم(حرب الاستقلال) على نكبة 1948 وإعلان قيامها منتصف أيار/مايو، مع أن القاصي والداني يعلم أن سلطات الانتداب البريطاني هي من سهل للعصابات الصهيونية التحول إلى جيش نظامي وسلمت لهم معسكراتها ومؤسساتها وهياكل دولة لا تحتاج إلا إلى تغييرات شكلية، ناهيك طبعا عما سبق ذلك من تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين وتعمّد تجريد العرب الفلسطينيين من السلاح، فيما تتزود به العصابات الصهيونية، وصك الانتداب القائم على تنفيذ وعد بلفور.

ومع ذلك حرصت إسرائيل دوما على أن تظهر كدولة حليفة للغرب وضمن منظومة الدول العظمى الراعية لها والحامية لوجودها، لا تابعا ومنفذا للسياسات الغربية وممثلا فيزيائيا لمصالحها في المنطقة.

 

انكشف المكشوف!

جاءت هذه الحرب كاشفة بأن إسرائيل هي الوكيل والغرب-خاصة واشنطن- هو الأصيل؛ فلا يكاد يمر يوم دون إطلالة إعلامية لمسؤول أمريكي ابتداء من الرئيس بايدن وليس انتهاء بمنسق الأمن القومي كيربي، ومرورا بوزير الخارجية بلينكين يتحدثون فيها عن الحرب وعن رفضهم لوقف إطلاق النار، وغير ذلك من التصريحات غير المسبوقة منذ قيام إسرائيل، بالتزامن مع النشاط الذي له طابع سرّي، ومنه مباحثات وجولات مدير وكالة الاستخبارات المركزيةCIA في المنطقة(ويليام بيرنز).

وإذا كان هذا يؤكد ما يردده مراقبون منذ بداية الحرب عن عجز إسرائيل عن حماية وجودها من الأساس، فإنه يؤكد أكثر عودتها إلى وصاية القوى والدول العظمى، وهو ثالث أركان مرحلة بدايتها وما قبل تأسيسها، وقد تحدثت في المقال السابق عن ركنين (التهجير والمجازر) والركن الثالث هو التدثر بالعباءة الغربية العسكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية الغربية وقبول ظهور الكيان بأنه (محمية) غربية بلا أقنعة.

سوابق تاريخية  

لعل هناك حوادث مشابهة في التاريخ البعيد والقريب؛ منها ثورة البراق في صيف 1929 التي كاد العرب إبانها ينجحون بتصفية الوجود الصهيوني في فلسطين لولا تدخل سلطة الانتداب البريطانية بجيوشها في فلسطين وأخرى استدعتها من مصر، ولعل الصهاينة اليهود تلقوا وقتها درسا إنجليزيا  ألا قِبل لكم بالعرب كي تغيروا(الآن) وضع المسجد الأقصى دون التنسيق الكامل معنا والضوء الأخضر منا.

والحدث الثاني عندما شكلت أمريكا تحالفا من أكثر من ثلاثين دولة لضرب العراق وإخراجه من الكويت 1990-1991 وضم التحالف دولا عربية، وقد هدد صدام حسين بأنه سيقصف إسرائيل في حال هوجمت بلاده دون سابق إنذار ونفذ تهديده.

ومع أن إسرائيل هددت بأنها ستضرب منصات الصواريخ غرب العراق، بل ذهبت بعيدا بأنها ستستهدف الأردن في حال اعترض طريقها، إلا أن جورج بوش الأب فرض عليهم السكوت وعدم الرد حتى لو استخدم صدام السلاح الكيماوي.

للحدثين سياقات مختلفة؛ فالأول قبل حوالي عقدين من قيام إسرائيل رسميا، والثاني لظروف معروفة.

ولكن حاليا الظرف مختلف بعد بضع وسبعين سنة من قيام إسرائيل؛ فإسرائيل هرولت مذعورة إلى عباءة الحماية الغربية، وعودة الوصاية-على فرض رحيلها شكليا- الأمريكية، وهي في أوج قوتها وعربدتها وهرولة أطراف من النظام العربي الرسمي لتطبيع العلاقات معها، بسبب منظمة فلسطينية محاصرة، مما يجعل (عقدة الوجود) ذات محل عميق داخل أي منطق أو استنتاج.

والأيام حبلى بالمزيد.

،،،،،

من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين

تم النشر ،الخميس  2 جمادى الأولى   1445هـــ، 16-11-2023م

https://www.aljazeera.net/blogs/2023/11/16/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B5%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B4%D9%88%D9%81%D8%A9

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...

إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة" تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن