بعد 75 عاما...إسرائيل عادت إلى مرحلة ما قبل الدولة

  

أخط هذا النص بعد غياب طويل نسبيا لسببين: الأول صحي منعني من الكتابة والحمد لله على نعمة العافية، والثاني هو أن المشاهد التي تبث عبر الشاشات ونشرات الأخبار والتغطية المستمرة، من ناحية تغني عن كثير مما يخطه اليراع، ومن ناحية أخرى يزهد الناس تلقائيا في صرف جزء من وقتهم في قراءة نص يتجاوز ما ألفوه من تغريدات قصيرة عبر مواقع التواصل، وأعني بالمشاهد والأخبار الحرب على غزة بالتأكيد.

والآن بعد مرور أسابيع على الحرب لا بد من إضاءة على جوانب مهمة في هذا الوقت باستخدام المرقوم، حتى لو انشغلنا عن القراءة لكنها تظل وسيلة العلم والمعرفة الأساسية مهما تطورت الوسائل الأخرى.

الحاج فضل الجزماوي

رحم الله الحاج فضل، فهو شخص معروف في مدينة جنين، كسب قوته من كده، وعلّم أولاده وبناته وأخرجهم أفراد صالحين في المجتمع، قبل أن يأتيه أجله؛ والحاج فضل لجأ إلى جنين من بلدة معروفة وكبيرة قرب مدينة حيفا وهي(اجزم) مع كثير من اللاجئين الذين توزعوا ما بين الضفة الغربية والأردن وسورية ولبنان والعراق في خضم نكبة 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل.

ومثل كثير من اللاجئين الفلسطينيين وقتها عانى ألم التشريد والتهجير، وحكايات المجازر المروعة التي رافقت إخراج الناس من مدنهم وقراهم ومضارب البدو على يد العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا.

وعندما حان وقت النكبة الثانية في حزيران 1967 تذكر هو وغيره ما كان قبل 19 سنة وجاءت ذكريات الطرد والقتل والجرائم، فحزم ما استطاع من أمتعته ورحل الحاج فضل فارّا من تكرار المشهد إلى شرق النهر(الأردن).

يحدثنا كبار السن عن احتلال الضفة الغربية في 1967 بأن قوات الجيش الإسرائيلي حرصت على التقليل من عدد القتلى بين المدنيين، وركزت جهدها على جمع السلاح، وألقى قادتهم كلاما فيه نوع من الطمأنة للناس على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، واللاجئون الذين شهدوا أحداث نكبة 1948 لاحظوا فرق التعامل من القوم بعد 19 سنة.

وبخصوص الحاج فضل وغيره ممن نزحوا إلى شرق النهر(الأردن) فقد منحت السلطات الإسرائيلية مدة زمنية لمن يرغب بالعودة عن طريق التنسيق مع الصليب الأحمر، وقرر الحاج فضل أن يعود وعلى الحدود بين الضفتين وهو عائد إلى جنين، أجرت الإذاعة الإسرائيلية معه مقابلة حول سبب نزوحه وقراره بالعودة وغير ذلك، وكان مما قاله (أنتم مجرمون تقتلون المدنيين) وكان رد المذيع:هذا في الماضي نحن الآن دولة منظمة.

 

عودة إلى التهجير والمجازر المتواصلة

 

حكاية الحاج فضل أعلاه تعطينا فكرة ومفتاحا لتحولات الكيان العبري، وانتقاله من الجرائم الواسعة العشوائية إلى (الجريمة المنظمة) القائمة على مؤسسة عسكرية وأمنية وقوانين متدرجة لتثبيت المشروع تدريجيا دون استخدام واسع متكرر إلى ما كان عليه الحال في مرحلة ما قبل تأسيس الدولة وبداية قيامها؛ حيث التفجيرات والاعتداءات الدموية وصولا إلى مجازر مروعة بعضها مشهور وبعضها قلة سمعوا به وبعضها لم يكشف عنه ومن أشهرها مجازر دير ياسين والطنطورة والدوايمة.

حرص الاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة 1967 على أن تكون المجازر متباعدة نسبيا، وبعد كل مجزرة يحاول امتصاص ردّات الفعل عبر لجان تحقيق وأحيانا محاكمة أفراد متورطين في جرائم ضد الفلسطينيين، صحيح كان يتم تخفيف الأحكام عنهم على مراحل ليفرج عنهم، ولكن بعد انتهاء الغضب الشعبي.

بل إن لجنة كاهان التي شكلت للتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982 تسببت في اعتزال بيغن السياسة حتى موته وحيدا، وفي غياب شارون عن الحياة السياسية سنوات.

لقد تعاملت إسرائيل مع الفلسطينيين كدولة حديثة ماكرة، تصادر أرضهم بالتدريج عبر مراحل زمنية دون قتل أو تشريد وتهجير يلفت النظر.

وحين تمارس هوايتها المفضلة التي تأسست عليها، أي القتل الجماعي والمجازر يكون هذا في ظروف معينة وفترات زمنية متباعدة نسبيا وبأعداد قتلى مدروسة.

والآن في الحرب على غزة انقلب كل شيء وعادت إسرائيل إلى بداياتها؛ فهي على مدار الساعة تقصف غزة مستهدفة الأطفال والنساء والمدنيين الفقراء وتوقع أعدادا كبيرة منهم بين شهيد وجريح جراحا تسبب إعاقة، وكثير من عائلات غزة مسحت من السجل المدني، ولا يسلم من استهدافها بالقنابل التي يلقيها طيرانها الحربي مشفى أو مدرسة أو مسجد أو كنيسة أو شارعا أو مربعا سكنيا، على مرأى ومسمع العالم!

وتطالب علنا بترحيل الغزيين إلى سيناء، وتلقي على المواطنين منشورات بأن يغادروا شمال غزة نحو جنوبها فتلحقهم طائراتها هناك لتقتلهم بلا رحمة...عادت إلى ممارسة التهجير بوحشية غير مسبوقة.

والعودة إلى البدايات بعد 75 سنة على تأسيس الدولة مؤشر على شعور بالخطر الوجودي، وانكشاف غريزة حاولت التعمية عليها، وفقدان ما تفاخرت به عبر سنوات بأنها دولة قانون، ولا تستهدف المدنيين عمدا، بل إنها لطالما قارنت نفسها بأنظمة عربية في التعامل مع المدنيين.

وعادت سجونها التي كانت تفتخر بأنها فنادق مقارنة مع سجون أنظمة عربية إلى المرحلة الأولى بعيد الاحتلال، من حيث التضييق على الأسرى وضربهم وسحب كل شيء من غرف احتجازهم المكتظة وتقديم طعام رديء لهم، ومنع المحامين من زيارتهم، وإهمال طبي، وتفنن في التنكيل والإذلال.

بالنسبة لي أعرف أن هذه هي إسرائيل الحقيقية، وكل ما كان هو مساحيق تجميل وتغيير في الأساليب لا الأهداف المعلنة وغير المعلنة، ولكن هناك من هو متفاجئ.

 وأحرجت بتصرفاتها من روّجوا لفكرة نسيان الماضي الذي تأسست عليه(القتل والتهجير) والتعامل مع حاضرها كدولة متطورة فيها قوانين وتحترم حقوق الإنسان وتسعى للسلام مع محيطها العربي....إلخ هذا الهراء.

مع بشاعة المجازر المتواصلة، والألم والحزن على الأطفال الذي تحوّلهم القذائف الإسرائيلية أمريكية الصنع إلى أشلاء، فإن للأمر حسنة إظهار وجه إسرائيل الحقيقي الذي حاولنا عبر سنوات توضيح حقيقته، بلا جدوى.

وهذا يجعل الصراع يعود إلى منبعه وأصله(احتلال أرض وتشريد شعبها) بعيدا عن أية أمور أخرى.

عاد الكيان العبري إلى ثلاثية بداياته:القتل والتهجير والوصاية؛ وقد أتيت على القتل والمجازر والتهجير، أما الوصاية والتبعية فلها حديث منفصل بإذن الله تعالى.

،،،،،

من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين

تم النشر ،الإثنين  22 ربيع الآخر  1445هـــ، 6-11-2023م

https://www.aljazeera.net/blogs/2023/11/6/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-75-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%AA-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D9%85%D8%A7-%D9%82%D8%A8%D9%84

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ونحن نعيش ذكرى فتح القدس...

إسراء عيسى في رواية "حياة ممكنة" تحاول أن تحيك خيوطا لوحدة الوطن